إعادة النظر في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية: المحاولات الصعبة لمنع محاسبة المسؤولين الإسرائيليين
على الدول والمجتمع المدني ورجال القانون التحرك ضد الجهود الرامية إلى إعاقة العدالة
بقلم: جيمس هندرسون – القانون من أجل فلسطين
في 27 يونيو/حزيران، منحت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية الإذن بتقديم مذكرات مكتوبة بشأن مسألة الاختصاص المتعلقة بإصدار مذكرات الاعتقال بحق المواطنين الإسرائيليين. وجاء هذا القرار استجابة لطلب قدمته المملكة المتحدة في 10 يونيو/حزيران، والذي أثار مخاوف بشأن قدرة دولة فلسطين على منح الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على المواطنين الإسرائيليين بالنظر إلى أنه بموجب اتفاقيات أوسلو، لا تتمتع السلطات الفلسطينية بالولاية القضائية على المواطنين الإسرائيليين. في الواقع، من خلال هذا الادعاء، تثير المملكة المتحدة حجة “nemo dat quod not habet” والتي تعني أنه “لا يمكن لأحد أن يعطي ما لا يملكه”.
هذه الحجة ليست جديدة أمام المحكمة الجنائية الدولية. فقد أثار مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في السابق مخاوف بشأن الاختصاص القضائي للمحكمة في موضوع فلسطين، في وقت إجراء التحقيق الأولي في مسألة الولاية القضائية الإقليمية، وتم في حينه تقديم ملفات متعددة من الدول والأطراف المعنية الأخرى تناولت نفس الحجة. وقضت الدائرة التمهيدية للمحكمة في فبراير/شباط 2021 بأن الولاية القضائية الإقليمية لدولة فلسطين تمتد إلى جميع الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، مشيرة إلى تأكيد حق الفلسطينيين في تقرير المصير من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. وحول القضايا والحجج المقدمة إلى الدائرة بشأن اتفاقات أوسلو، وتحديداً الاتفاق المرحلي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة (اتفاقية أوسلو الثانية)، قررت الدائرة أن هذه الحجج لا صلة لها بالمسألة المطروحة أمام المحكمة، وهي نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين، لغرض السماح للمدعي العام ببدء التحقيق. وفي حين أشارت الدائرة التمهيدية إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بالولاية القضائية على دولة فلسطين، فقد أرجأت المحكمة البت بموضوع الاختصاص القضائي على الأشخاص إلى المستقبل، بحيث يمكن تناوله لاحقًا.
لا يزال عدد قليل من الدول والسياسيين متمسكين باتفاقيات أوسلو، ولا سيما حلفاء إسرائيل، باعتبارها “الطريق الوحيد للسلام في الشرق الأوسط”، متجاهلين الفشل الذريع للمعاهدة وانتهاكها المستمر والصارخ من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين. وتظل اتفاقيات أوسلو بمثابة صفقة فاسدة بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأفضل من وصفها الراحل إدوارد سعيد وقت توقيعها بأنها “فرساي الفلسطينية”. وبدلاً من العمل من أجل تقرير المصير وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني، تستخدم إسرائيل اتفاقيات أوسلو للحفاظ على نظامها الاستعماري الاستيطاني في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة، وتوسيع نطاق سيطرتها على الضفة الغربية، وتسريع بناء المستوطنات غير القانونية وتعزيز نظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني. والآن، بعد أن انتقلت من مجرد تعزيز الإفلات الإسرائيلي من العقاب على الانتهاكات في الأرض الفلسطينية المحتلة محليًا، تحاول المملكة المتحدة استخدام اتفاقيات أوسلو لمنع المساءلة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
إن الحاجة إلى المساءلة الدولية واضحة. تظهر إحصائيات الضحايا الأخيرة من غزة أن أكثر من 38.000 شخص قتلوا على يد إسرائيل بينما تواصل حربهاة المستعرة بالإبادة الجماعية، ومن المحتمل أن يصل إجمالي القتلى بسبب الصراع بشكل غير مباشر إلى 186.000، وهو ما يمثل حوالي 8% من السكان الفلسطينيين داخل غزة. وقد تم مساعدة إسرائيل وتحريضها على هذه الإبادة الجماعية بمواد من الدول الغربية التي يبدو أنها لا تهتم كثيراً بالتزاماتها بحماية السكان المدنيين. لقد رأينا باستمرار، منذ قيام إسرائيل عام 1948، أن إسرائيل لا تحقق في جرائمها المرتكبة ضد الفلسطينيين من قبل الجهات الحكومية أو الأفراد، وذلك ضمن سياسة الدولة. وقد كررت جنوب أفريقيا، في حججها أمام محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، كيف أن الجنود الإسرائيليين تصرفوا بشكل متعمد، في إطار تنفيذ تفويض حكومتهم، بقتل النساء والأطفال. واليوم، سواء تعلق الأمر بهجمات المستوطنين على منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية أو قصف المستشفيات في غزة، فإن إسرائيل تتصرف بشكل عمد وبصورة خبيثة وتفلت من العقاب، مدعومة بدعم الدول الغربية مثل المملكة المتحدة.
ويجب ألا تُستخدم اتفاقيات أوسلو لمنح الإفلات من العقاب بموجب القانون الدولي على أبشع الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين. ونظراً للتجاهل الصارخ الذي تبديه إسرائيل لأوسلو، وفشلها في المشاركة في العملية التي من المفترض أن تؤدي إلى السيادة الفلسطينية، فمن العبث بالأساس السماح لإسرائيل وحلفائها باستخدامها كدرع لمنع العدالة عن الانتهاكات الواضحة والصارخة في غزة، وكذلك في الضفة الغربية والقدس الشرقية التي تم ضمها بشكل غير قانوني. إن صلاحية اتفاقيات أوسلو كمعاهدة في حد ذاتها يجب أن تكون موضع تساؤل من قبل المحكمة، كما فعل العديد من العلماء والأكاديميين، الفلسطينيين والدوليين على حد سواء. وبصرف النظر عن عدم امتثال إسرائيل للمعاهدة، فإن أوسلو تتناقض أيضًا مع العديد من القواعد الآمرة وكذلك اتفاقيات جنيف، مما يقوض الإطار القانوني الدولي لصالح السياسة الواقعية المفترضة التي لم تؤت ثمارها ببساطة.
في طلبها المقدم في يناير/كانون الثاني 2020 بشأن الاختصاص القضائي أمام المحكمة، أوضحت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة للمحكمة الجنائية الدولية أن اتفاقيات أوسلو لا تمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها القضائي. في حينها، قالت بنسودة بأن أحكام أوسلو تتعلق باختصاص السلطة الفلسطينية في التنفيذ، والذي يختلف عن الاختصاص القضائي، وسلطة وضع القوانين ومنح الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية. ولا تؤثر الاتفاقيات الثنائية التي تحد من التنفيذ المحلي على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ولكنها قد تؤثر على التعاون أثناء التحقيقات والملاحقات القضائية. وأشارت المدعية العامة السابقة أيضًا إلى أن اتفاقيات أوسلو، باعتبارها “اتفاقية خاصة” بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، لا يمكن أن تنتهك أو تنكر حقوق “الأشخاص المحميين” تحت الاحتلال. لذلك، إذا كانت الاتفاقات تعني استبعاد واجب السلطة الفلسطينية في ملاحقة الانتهاكات الجسيمة أو قيامها بتفويض هذا الواجب إلى محكمة دولية، فإن هذه البنود لا يمكن لها أن تحد من اختصاص المحكمة. وفي حكمها لعام 2021، يبدو أن الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية قبلت هذه الحجة من قبل المدعية العامة، خاصة فيما يتعلق بالنقطة الأولى.
بالإضافة إلى ذلك، اعترض العديد من العلماء على فكرة أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يتم تفويضه من قبل الدول الأطراف. هذه الحجة مبنية على فرضية خاطئة. فوفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لا تقوم الدول الأطراف بتفويض أو نقل أو إعطاء اختصاصاتها للمحكمة. وبدلاً من ذلك، هم يقبلون اختصاص المحكمة (المادة 12 (1))، الذي تحكمه أحكام النظام الأساسي للمحكمة (المادة 1). وكدولة طرف، قبلت فلسطين باختصاص المحكمة.
ومن الواضح تمامًا أن قرار المملكة المتحدة بطلب تقديم مذكرات مكتوبة بشأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على المواطنين الإسرائيليين كان مدفوعًا بالسياسة أكثر من الاعتبارات القانونية. ويبدو أن هذه الخطوة هي محاولة متعمدة لتقويض المساءلة الجنائية الدولية عن تصرفات إسرائيل في غزة. ويجب على الدول والمجتمع المدني ورجال القانون الرد بوضوح على هذا الطلب، والتأكيد من جديد على ما تم تأسيسه بالفعل: للمحكمة ولاية قضائية على جميع التصرفات في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية التي تقع ضمن نطاق نظام روما الأساسي، بغض النظر عن مرتكب الجريمة، إسرائيليًا، أو فلسطينيًا، أو من أي جنسية أخرى. في عالم تتآكل فيه حقوق الإنسان والحماية الدولية بشكل متزايد، من المعقول والضروري حث جميع الأطراف على التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، وتأكيد اختصاص المحكمة على الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتعزيز المساءلة الدولية عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بموجب القانون الجنائي الدولي.
أخيرًا، تشير التقارير الإخبارية إلى أن حكومة المملكة المتحدة الجديدة تدرس إلغاء القرار الذي اتخذته إدارة ريشي سوناك السابقة، وبالتالي سحب تحفظاتها ضد أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق الإسرائيليين. في حين أن هذا التراجع سيكون خطوة ضرورية لإظهار احترام القانون الدولي ودعم تحقيقات المحكمة في الانتهاكات التي حصلت وتحصل لنظام روما الأساسي، فضلاً عن تنفيذ أي أوامر اعتقال صادرة، إلا أنه يظل من المهم للدول الأخرى والعلماء ومنظمات المجتمع المدني المضي قدمًا في تقديم طلب لإبداء رأيهم أمام المحكمة، بغض النظر عن قرار المملكة المتحدة بالخصوص. هذا التقديم من شأنه أن يدل على دعم الدول والباحثين لمحاكمة جميع المجرمين، بما في ذلك الإسرائيليين، خاصة في ضوء احتمال أن تتحدى دول أخرى اختصاص المحكمة على غرار الطلب الأولي للمملكة المتحدة.
[1] Public redacted version of ‘Order deciding on the United Kingdom’s request to provide observations pursuant to Rule 103(1) of the Rules of Procedure and Evidence, and setting deadlines for any other requests for leave to file amicus curiae observations’, Pre-trial chamber I, International Criminal Court, ICC-01/18 (27 June 2024) available at: https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/CourtRecords/0902ebd1808bb469.pdf
[2] Request by the United Kingdom for Leave to Submit Written Observations Pursuant to Rule 103, Pre-Trial Chamber 1, International Criminal Court, ICC-01/18 (10 June 2024) available at: https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/RelatedRecords/0902ebd180892e1f.pdf
[3] Para. 118 -123, Decision on the Prosecution request pursuant to article 19(3) for a ruling on the court’s territorial jurisdiction in Palestine, Pre-Trial Chamber I, International Criminal Court, ICC-01/18 (5 February 2021) available at: https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/CourtRecords/CR2021_01165.PDF
[4] Para. 124-129, Decision on the Prosecution request pursuant to article 19(3) for a ruling on the court’s territorial jurisdiction in Palestine, Pre-Trial Chamber I, International Criminal Court, ICC-01/18 (5 February 2021) available at: https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/CourtRecords/CR2021_01165.PDF
[5] Edward Said, ‘The Morning After’ London Review of Books vol. 15 no. 20 (21 October 1993) available at https://www.lrb.co.uk/the-paper/v15/n20/edward-said/the-morning-after
[6]Middle East Eye, ‘Israel announces largest Palestinian land grab in over 30 years’ (3 July 2024) available at: https://www.middleeasteye.net/news/israel-declares-largest-palestinian-land-grab-over-three-decades
[7] Rasha Khatib, Martin Mckee, ‘Counting the dead in Gaza: difficult but essential’ The Lancet (5 July 2024) available at: https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(24)01169-3/fulltext
[8] Para. 4 Case Concerning Application of the Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide in the Gaza Strip (South Africa V. Israel) Verbatim Record, International Court of Justice, CR 2024/1 (11th January 2024) available at: https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/192/192-20240111-ora-01-00-bi.pdf
[9] Para. 20 – 29, Case Concerning Application of the Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide in the Gaza Strip (South Africa V. Israel) Verbatim Record, International Court of Justice, CR 2024/1 (11th January 2024) available at: https://www.icj-cij.org/sites/default/files/case-related/192/192-20240111-ora-01-00-bi.pdf
[10]Ralph Wilde, ‘Israel’s War in Gaza is Not a Valid Act of Self-defence in International Law’ Opinio Juris ( 9 November 2020) available at: https://opiniojuris.org/2023/11/09/israels-war-in-gaza-is-not-a-valid-act-of-self-defence-in-international-law/; Yassir Al-Khudayri, ‘Are the Oslo Accords Still Valid? For the ICC and Palestine, It Should Not Matter’ Opinio Juris (10 June 2020) available at: https://opiniojuris.org/2020/06/10/are-the-oslo-accords-still-valid-for-the-icc-and-palestine-it-should-not-matter/
[11] Ibid.
[12] Para. 183 – 189. Prosecution request pursuant to article 19(3) for a ruling on the Court’s territorial jurisdiction in Palestine. No. ICC-01/18. 22 January 2020. https://www.legal-tools.org/doc/clur6w/pdf/
[13] Para. 124 -129, Decision on the Prosecution request pursuant to article 19(3) for a ruling on the court’s territorial jurisdiction in Palestine, Pre-Trial Chamber I, International Criminal Court, ICC-01/18 (5 February 2021) available at: https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/CourtRecords/CR2021_01165.PDF
[14] See:
Adil Ahmad Haque, The International Criminal Court’s Jurisdiction in Palestine and the ‘Oslo Accords Issue’. July 9, 2024 https://www.justsecurity.org/97584/israel-palestine-icc-oslo-accords/#:~:text=According%20to%20the%20U.K.’s,criminal%20jurisdiction%20over%20Israeli%20nationals.%E2%80%9D
Leila Nadya Sadat, The Conferred Jurisdiction of the International Criminal Court. January 16, 2024. https://ndlawreview.org/wp-content/uploads/2024/01/NDLR_99.0549_Sadat.pdf
Regarding Oslo Accords and the ICC jurisdiction, see: Professors Asem Khalil and Halla Shoaibi. Submissions Pursuant to Rule 103. No.: ICC-01/18. 16 March 2020. https://fada.birzeit.edu/bitstream/20.500.11889/6335/1/amicus%20curiea.pdf