الإبادة الجماعية باعتبارها محوًا استعماريًا || ملخص لتقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة حول الإبادة الجماعية الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية
إعداد: هينريت ويلبيرغ
الترجمة إلى العربية: وداد حسين
نظرة عامة
في 30 أكتوبر/تشرين أول 2024، وفي الدورة العادية التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، قدمت الدكتورة فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، تقريرها بعنوان “الإبادة الجماعية باعتبارها محوًا استعماريًا”، والذي تناول الهجمات المدمرة التي شنتها إسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ 7 أكتوبر/تشرين أول 2023 وعواقبها الكارثية. ويعد هذا تقريرها الثاني منذ أكتوبر/تشرين أول 2023، حيث يسلط الضوء على التأثير المدمر للإبادة الجماعية المستمرة في غزة، إلى جانب تصعيد العنف في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
وعلى الرغم من ولاية المقررة الخاصة وأمر محكمة العدل الدولية لإسرائيل بأن تسمح للمحققين الدوليين بدخول غزة، فقد استمرت إسرائيل في رفضها السماح للدكتورة ألبانيز بالدخول إلى الأرض الفلسطينية المحتلة. ويستند التقرير، المبني على البحث والتحليل القانوني، إلى مقابلات مع الضحايا والشهود، فضلاً عن معلومات مفتوحة المصدر، جُمعت عن بعد، الى جانب مساهمات من خبراء، ومن المجتمع المدني (الفقرة 2 من التقرير).
وتؤكد المقررة الخاصة في تحليلها القانوني بأن سلوك إسرائيل في غزة يشكل إبادة جماعية. فقد أدى الهجوم الإبادي الإسرائيلي المستمر على غزة إلى نزوح ما لا يقل عن 90 في المائة من الفلسطينيين في غزة قسراً، كما أسفر عن دمار واسع النطاق وخسائر لا يمكن قياسها (الفقرتان 9 و13)، مما جعل غزة “غير صالحة للحياة البشرية” (الفقرة 15). وفي أعقاب تكثيف العنف من جانب القوات الإسرائيلية وميليشيات المستوطنين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، خلصت المقررة الخاصة إلى أن الإبادة الجماعية في غزة تهدد الآن بالتوسع لتشمل جميع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي (الفقرة 83).
ويؤكد التقرير على أن سلوك إسرائيل الإبادي الجماعي يجب أن يُفهم في سياق أوسع كجزء من “مشروع استعمار استيطاني إلغائي في فلسطين يمتد لقرن من الزمن” (الفقرة 89) وأن “حملة متعمدة من الحوادث المترابطة” في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية يجب أن يُنظر إليها بشكل تراكمي (الفقرة 62). وتحلل المقررة الخاصة بشكل نقدي مزاعم إسرائيل الزائفة بالدفاع عن النفس وحماية الرهائن، وتخلص إلى نتيجة دامغة مفادها أن جهاز الدولة الإسرائيلي بأكمله متواطئ في مشروع الإبادة الجماعية. ويخلص التقرير إلى أن الإبادة الجماعية هي وسيلة لتحقيق غاية، ألا وهي “الإزالة التامة أو الاستئصال الكامل للفلسطينيين من الأرض التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من هويتهم” (الفقرة 84). وتدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة استجابة لهذا الوضع الخطير.
وتشمل التوصيات الرئيسية التي قدمتها المقررة الخاصة إلى الدول الأعضاء ما يلي:
- إنفاذ الحظر المطلق للإبادة الجماعية، ، بدءًا بحظر كامل للأسلحة وفرض العقوبات
- الاعتراف رسميًا بإسرائيل كدولة فصل عنصري، وإعادة تنشيط لجنة الأمم المتحدة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري، وتحذير إسرائيل بامكانية تعليق عضويتها (وفقًا للمادة 6 من ميثاق الأمم المتحدة)
- دعم التحقيقات في الجرائم الدولية، بما في ذلك على أساس الولاية القضائية العالمية، والتحقيق مع مزدوجي الجنسية المتورطين في جرائم في الأرض الفلسطينية المحتلة وملاحقتهم قضائيًا.
وفيما يلي موجز لتحليل ونتائج تقرير المقررة الخاصة بمزيد من التفصيل.
الإبادة الجماعية التي تتكشف بوصفها “وسيلة لتحقيق غاية”
تبحث المقررة الخاصة في هذا الفرع من التقرير أنماط السلوك التي «تدل على وجود نية للجوء إلى أعمال الإبادة الجماعية كوسيلة للتطهير العرقي لكامل الأرض الفلسطينية المحتلة أو أجزاء منها» (الفقرة 12). حيث انتشر سلوك الإبادة الجماعية في غزة وتكثفت استراتيجية إسرائيل المتعمدة «لجعل الحياة الفلسطينية غير قابلة للاستمرار» في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الفشل في وقف الابادة الجماعية والمعاقبة عليها في غزة
ترصد المقررة الخاصة الفشل المنهجي في وقف الابادة الجماعية والمعاقبة عليها في غزة، وتوثق انتشارًا مقلقًا لأعمال الإبادة الجماعية التي أدت إلى خسائر بشرية ومادية وبيئية “لا يمكن قياسها” (الفقرة 13). ووفقًا للتقارير، قُتل ما يقرب من 42000 فلسطينياً، منهم 13000 طفل على الأقل (الفقرة 14)، وأصيب قرابة 96000 فلسطينياً. وقد صاحب هذا القدر من الخسارة البشرية دمار واسع النطاق أدى إلى نشوء ما يقرب من 40 مليون طن من الحطام وأكثر من 340000 طن من النفايات التي تلوث النظام البيئي والتي ساهمت في الانتشار السريع للأمراض (الفقرة 15).
وتوثق الدكتورة ألبانيز كيف واصلت إسرائيل مهاجمة “المناطق الآمنة” المزعومة، واستهداف الفلسطينيين النازحين في الملاجئ وتهجيرهم إلى أراضٍ مقفرة غير صالحة للسكن (الفقرة 16). وأجبرت أوامر الإخلاء غالبية سكان غزة على الانتقال إلى “منطقة إنسانية” متقلصة وغير آمنة تغطي 12.6٪ من الأراضي التي أعيد تشكيلها الآن استعدادا لضمها. والواقع أن النزوح القسري الجماعي أعقبه توسع في الطرق والقواعد العسكرية الإسرائيلية مما يشير إلى هدف “الوجود الدائم” (الفقرة 17).
وتواصل إسرائيل استهداف مرافق الرعاية الصحية وشبكات المياه والصرف الصحي، في حين تعرقل وصول المساعدات الإنسانية، كما هو موثق في التقرير. وباستخدام حجج «استخدام المرافق الطبية دروعا بشرية»، هاجمت إسرائيل مرارا مرافق الرعاية الصحية والمستشفيات (الفقرة 18). وفي مواجهة تفشي وشيك لفيروس شلل الأطفال، الذي اكتشفته منظمة الصحة العالمية في قطاع غزة لأول مرة منذ أكثر من 25 عامًا، أخرت إسرائيل عمليات التطعيم وهاجمت مناطق التطعيم وقافلة التطعيم التابعة للأمم المتحدة (الفقرة 19). وتدل الهجمات المنتظمة على سيادة غزة الغذائية – من خلال تدمير الأراضي الزراعية والخزانات واستهداف مراكز التوزيع – على وجود نية لتدمير السكان من خلال المجاعة (الفقرة 20). ويواجه 95٪ من الفلسطينيين في غزة حاليًا «مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد» وينبئ تدمير 93٪ من اقتصادات الزراعة والغابات وصيد الأسماك بعقود من الحرمان في المستقبل (الفقرة 20).
وعلاوة على ذلك، وثقت المقررة الخاصة نمطاً من الانتهاكات المنهجية في شبكة من معسكرات التعذيب الإسرائيلية حيث يتعرض الفلسطينيون لمعاملة لا إنسانية، تشمل التجويع والضرب المبرح والصعق بالكهرباء والحرمان من الرعاية الطبية والاعتداء الجنسي من قبل البشر والحيوانات على حد سواء، حيث توفي 48 محتجزا على الأقل أثناء احتجازهم (فقرة 22).
خطر الإبادة الجماعية في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية
وعلاوة على ذلك، تدرس المقررة الخاصة التطورات الهامة في مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة وتجد أن خطر الإبادة الجماعية محدق في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وتفيد بأن الدمار الذي لحق بغزة ينتشر إلى الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، حيث تصاعدت الهجمات العنيفة التي تشنها ميليشيات المستوطنين إلى جانب ممارسات الاعتقال القاسية والهجمات على العاملين في المجال الطبي والبنية التحتية (الفقرات 24-37). وقد قتل المستوطنون العنيفون، بدعم من القوات الإسرائيلية، أكثر من 692 فلسطينياً وأصابوا 5199 آخرين، في الفترة من 7 اكتوبر/تشرين أول 2023 إلى نهاية سبتمبر/أيلول 2024 (الفقرة 25). كما نفذت القوات الإسرائيلية حملة اعتقالات جماعية، نتج عنها اعتقال عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك أكاديميين وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان (الفقرة 27). وكما هو الحال في غزة، كانت ممارسات الاعتقال وحشية، حيث تعرض المعتقلون للتعذيب والاغتصاب والحرمان من الرعاية الطبية (الفقرة 27).
وقد نفذت القوات الإسرائيلية حصارات ومداهمات وقصفًا جويًا في مخيمات شمال الضفة الغربية، مما أدى إلى تهجير آلاف الأسر وتدمير البنية التحتية الحيوية (الفقرة 29). وكجزء من عملية “مخيمات صيفية”، التي بدأتها إسرائيل في 27 أغسطس/آب 2024، استهدفت القوات الإسرائيلية جنين ونابلس وقلقيلية وطوباس وطولكرم، ووضعت السكان تحت حظر التجول، كما قيدت وصول الغذاء والمياه، واستهدفت البنية التحتية للصحة العامة ودمرت الشوارع والممتلكات (الفقرة 30). وكانت الهجمات المستهدفة على قطاع الصحة في الضفة الغربية واسعة النطاق (الفقرة 31).
وقد صاحب هذا العنف تعزيز إسرائيل لضم الضفة الغربية بحكم القانون. ففي 29 مايو/أيار 2024، تم نقل إدارة الضفة الغربية إلى السلطات المدنية، التي وافقت على الفور على المزيد من مصادرة الأراضي (الفقرة 32). وإلى جانب ذلك، هدمت إسرائيل أو صادرت أو أمرت بهدم أكثر من 1416 مبنى فلسطينيًا، مما أدى إلى تهجير المجتمعات الفلسطينية وفتح الأراضي في المنطقة (ج) لمزيد من الاستعمار (الفقرة 32).
وفي أعقاب تقييمها لهذه التصعيدات، خلصت المقررة الخاصة، على نحو مثير للقلق، إلى وجود خطر يتمثل في امتداد الإبادة الجماعية في غزة لتشمل جميع الفلسطينيين الخاضعين للحكم الإسرائيلي.
“تكثفت استراتيجية إسرائيل المتعمدة لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق بشكل ملحوظ في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على بقاء الفلسطينيين على قيد الحياة” (فقرة 34).
فهم التعقيد القانوني لنوايا الإبادة الجماعية ونطاقها
وترى المقررة الخاصة أن الاجتهادات القضائية ذات الصلة تسمح باتباع «نهج تفسيري شامل» لإدراك نية الإبادة الجماعية في سلوك الدول (الفقرة 38). حيث بدأت دراستها حول التعقيد القانوني لنية الإبادة الجماعية من خلال تسليط الضوء على ثلاثة عوامل مهمة يجب أخذها في الاعتبار.
أولاً، تسلط الدكتورة ألبانيز الضوء على أن “تجزئة السلوك إلى أفعال متباينة دون الرجوع إلى السياق الأوسع يمكن أن يحجب النية في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية المطلوبة” (الفقرة 36 (أ)). ونتيجة “لضخامة وتعقيد” جريمة الإبادة الجماعية، فإن السلوك الإبادي الجماعي يحتاج إلى فهم وتحليل في سياقه الأوسع (الفقرة 39). وهذا يعني النظر في “الدمار الناجم عن طبيعة وحجم الفظائع”، و”ضبابية الحرب”، و”المطالبات بالانتقام أو الدوافع البديلة” و”الفرصة المتاحة لارتكاب الإبادة الجماعية” (الفقرة 39).
في الممارسة الدولية، يمكن للوقائع نفسها أن تشكل أساسا لتهم متعددة (وتشكل جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية وفعل إبادة جماعية). وعند تحديد النية في ارتكاب أعمال إبادة جماعية، من الأهمية بمكان تقييم “ما إذا كانت جميع الأدولة، مجتمعة، تثبت وجود حالة ذهنية لارتكاب إبادة جماعية” (الفقرة 40).
ثانيًا، يوضح التقرير كيف يمكن لأفعال أخرى، إلى جانب الأفعال الخمسة التي تشكل سلوك الإبادة الجماعية، أن تكون مؤشرًا على نية الإبادة الجماعية (الفقرة 36 (ب)). ففي الفقه القانوني، ركز تقييم نية الإبادة الجماعية بشكل عام على الأفعال التي تستهدف أساس جماعة ما، مع النظر في نية التدمير بشكل كلي ومجمل (الفقرة 44). وعلاوة على ذلك، فقد تم الاعتراف بأن الجماعة لا تتألف من أفرادها فحسب “ولكن أيضًا من تاريخها وتقاليدها”، فضلاً عن “العلاقة مع الأرض” (الفقرة 45) – وهي علاقة ذات صلة خاصة في السياقات الاستعمارية الاستيطانية، حيث تكون الأرض “جزءا لا يتجزأ من حق الشعب في تقرير المصير والمشروع الاستعماري الاستيطاني” (الفقرة 46). تشكل الأرض جزءاً لا يتجزأ من هوية السكان الأصليين في صراعهم مع المستعمر الذي يسعى للاستحواذ على أرضهم، وبالتالي فإن قضية الأرض “تشير إلى الطريقة يقوم فيها المشروع الاستعماري الاستيطاني بتدمير السكان الأصليين من أجل استبدالهم” (الفقرة 46).
في سياق الاستعمار الاستيطاني، ينبغي اعتبار السلوك الذي يؤدي إلى فصل السكان الأصليين عن أراضيهم ــ كالتهجير القسري، على سبيل المثال ــ مؤشرات مهمة على نية محددة تستهدف وجود الجماعة (فقرة 47/48).
وتجادل المقررة الخاصة أنه في السياق الاستعماري الاستيطاني، ينبغي اعتبار السلوك الذي يؤدي إلى فصل السكان الأصليين عن أرضهم ــ كالتهجير القسري، على سبيل المثال ــ مؤشرات مهمة على نية محددة تستهدف وجود الجماعة (الفقرة 47). وقد اعترفت محكمة العدل الدولية بوجود نظام من الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة في رأيها الاستشاري الصادر في 19 يوليو/تموز 2024، والذي وجد أن استمرار وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني وأن إسرائيل تنتهك المادة 3 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، بما في ذلك كافة أشكال الفصل العنصري (انظر، على سبيل المثال، الرأي الاستشاري الصادر في 19 يوليو/تموز 2024، الفقرات 155 و173 و179). وقد تم تسليط الضوء بشكل أكبر على الطبيعة الاستعمارية للاحتلال الإسرائيلي في العديد من الآراء المنفصلة لقضاة محكمة العدل الدولية (الرأي المنفصل للقاضي يوسف الفقرة 12، وتصريح القاضي شيو الفقرة 4، والرأي المنفصل للقاضي جوميز روبليدو الفقرة 26).
ثالثاً، تلاحظ المقررة الخاصة أن الاجتهادات القضائية الحالية نشأت في المقام الأول عن الملاحقة الجنائية للأفراد، وهو ما يمكن أن يحد من الاعتراف المبكر بمسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية (الفقرة 36 (ج)). حيث أنه في قضية كرواتيا ضد صربيا، قررت محكمة العدل الدولية أنه ينبغي النظر في “المعقولية” عند الاستدلال على نية الإبادة الجماعية من أنماط السلوك (الفقرة 50)، أي أن نية الإبادة الجماعية هي “الاستنتاج المعقول الوحيد”. وفي حين أن نية الدولة يمكن أن تستمد “من مجمل النوايا الفردية في ارتكاب أعمال إبادة جماعية”، فإن غياب الإدانات الجنائية الفردية لا ينبغي أن يعفي الدولة (الفقرة 51). وتؤيد المقررة الخاصة الحجة التي ساقتها مجموعة من الدول التي تتدخل حالياً في قضية غامبيا ضد ميانمار بأن “معيار المعقولية” يتطلب “نهجاً متوازناً” (الفقرة 52). وهذا يستلزم استبعاد النوايا الأخرى المحتملة التي لا تدعمها الأدلة (الفقرة 53 (أ))، والنظر في سلوك الدولة ونيتها بشكل شامل (الفقرة 53 (ب))، والاعتراف بمجمل سلوك الإبادة الجماعية بحيث لا يتم التعتيم على النية من خلال “الاستراتيجيات والسياسات والإجراءات المزعومة” للدولة المرتكبة للفعل غير المشروع (الفقرة 53 (ج)).
“العدسة الثلاثية الشاملة”: النية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين كجماعة بحد ذاتها
وتطبيقا للإطار المبين أعلاه، تنظر المقررة الخاصة إلى السلوك الإسرائيلي برمته ضد جميع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتخلص إلى أن النية لتدمير الشعب الفلسطيني “لا يمكن أن تكون أكثر وضوحاً من السلوك الإسرائيلي عندما يُنظر إليه في مجمله” (الفقرة 54).
الأرض بأكملها: “إسرائيل الكبرى”
توضح الدكتورة ألبانيز أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سعت إلى تحقيق هدف “إسرائيل الكبرى” (أرض إسرائيل)، وهو مبدأ أساسي من مبادئ المشروع الصهيوني الذي أعاق تحقيقه “حق تقرير المصير المعترف به قانونًا للفلسطينيين المرتبط بتلك الأرض” (الفقرتان 55/56). والواقع أنه في حين توسعت المستعمرات الإسرائيلية وأعداد المستوطنين بشكل كبير، فقد صاغت إسرائيل تأكيدات الفلسطينيين على حقهم بتقرير المصير باعتبار أنه يمثل تهديدًا أمنيًا لإسرائيل، وهو ما “ساعد في إضفاء الشرعية على الاحتلال الدائم” (الفقرة 57). وتلاحظ المقررة الخاصة أن أحداث السابع من أكتوبر “وفرت الزخم للمضي قدماً نحو هدف “إسرائيل الكبرى”: وإعادة استعمار غزة بشكل انتهازي واستمرار الضم وبناء المستعمرات في الضفة الغربية (الفقرة 59). “لقد سنحت الفرصة لقطع صلة الفلسطينيين بالأرض، مع ما يترتب على ذلك من عواقب متوقعة على وجودهم الفلسطيني” (الفقرة 61).
تدمير الجماعة بالكامل: تدمير الشعب الفلسطيني
وتحدد المقررة الخاصة نمطًا من السلوك “يفرض عمدًا على الجماعة ظروفًا حياتية مدبرة لإلحاق الدمار المادي بها” (الفقرة 63). فالأرض الفلسطينية المحتلة “تتحول عمدًا إلى أرض غير صالحة للعيش”، بدءًا بتدمير المباني والبنية التحتية، إلى استهداف الأطفال والتعذيب والقتل الجماعي (الفقرة 62). وقد أدى التدمير المنهجي للبنى التحتية للصحة والغذاء والصرف الصحي إلى المجاعة وانتشار الأمراض والتشريد القسري الذي “يعرض بقاء الجماعة على قيد الحياة للخطر في الأمد البعيد ” (الفقرة 63). وتصف المقررة الخاصة الاستهداف المتعمد للصحة العامة وتدميرها بأنه “أسلوب من أساليب الإبادة الجماعية “البطيئة”” (الفقرة 63).
وبالإضافة إلى ذلك، تسلط المقررة الخاصة الضوء على الضرر النفسي الناجم عن التهجير القسري المستمر، والذي يساهم في “تدمير الروح وإرادة الحياة والحياة نفسها” (الفقرة 64). حيث إن السلوك الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 “ألحق ضررًا نفسيًا شديدًا بجميع الفلسطينيين، سواء الضحايا المباشرين أو الشهود على ذلك في المنفى” (الفقرة 65). والذي يتمثل هدفه العام في “إذلال الفلسطينيين وإهانتهم ككل” (الفقرة 65)، مما يسبب الألم والخسارة “وسيظل هذا الشعور يطارد الأجيال القادمة” (الفقرة 65).
وتؤكد الدكتورة ألبانيز على حقيقة مفادها أن السلوك الإبادي الجماعي يمكن أن يستهدف أعضاء من نفس الجماعة في أجزاء مختلفة من أراضيهم من خلال أعمال تتفاوت في شدتها (فقرة 66). “وفي الخلفية عانى الفلسطينيون داخل إسرائيل (الأعداء في الداخل) أيضاً من القمع. وتهدد الهجمات المتواصلة ضد الأمم المتحدة ولا سيما الأونروا، شرايين الحياة الاجتماعية والاقتصادية لملايين اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة ككل” (فقرة 66). وقد بدأت نفس أنماط سلوك الإبادة الجماعية التي شوهدت في غزة تظهر في الضفة الغربية (فقرة 67).
وتقدم المقررة الخاصة تحليلا لا لبس فيه: “الاستدلال الوحيد الذي يمكن استخلاصه بشكل معقول من كل هذا هو وجود نية واضحة للنيل من “قدرة الجماعة على تجديد نفسها، وبالتالي ضمان بقائها في الأمد الطويل” (فقرة 67).
مجمل السلوك: تبرير النية في ارتكاب أعمال إبادة جماعية على أنها دفاع عن النفس
وأخيراً، تنظر المقررة الخاصة في الكيفية التي تعمل بها حجج إسرائيل المتعلقة بالدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب في “تبرير” نية الإبادة الجماعية (الفقرة 68). إن اهداف إسرائيل المعلنة المتمثلة في القضاء على حماس وإعادة الرهائن إلى ديارهم لا “تحول دون التوصل إلى استنتاج وجود النية في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية باعتبارها الاستدلال الوحيد المعقول الذي يمكن استخلاصه”، بل إنها تثبت ذلك. (الفقرة 68).
إن حجج إسرائيل المتعلقة بالدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب تخدم “تبرير” نية الإبادة الجماعية (فقرة 68)
وتستشهد المقررة الخاصة بقول القاضية ترينداد: “يكاد مرتكبو الإبادة الجماعية يزعمون دائمًا أن … أفعالهم قد ارتكبت في اطار نزاع عسكري مستمر”؛ غير أن “الإبادة الجماعية قد تكون وسيلة لتحقيق أهداف عسكرية تماماً كما قد يكون النزاع العسكري وسيلة للتحريض على خطة إبادة جماعية”. (تطبيق اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية (كرواتيا ضد صربيا)، الحكم، تقارير محكمة العدل الدولية 2015، ص 3، الرأي المخالف للقاضي كانكادو ترينداد، الفقرة 144).
وتؤكد الدكتورة ألبانيز أن استخدام إسرائيل لـحجة “الدفاع عن النفس” خاطئ، لأنه “من الثابت أن إسرائيل لا تستطيع التذرع بالدفاع عن النفس بشكل شرعي ضد السكان الرازحين تحت احتلالها“، والذين يقع على عاتقها الالتزام بحمايتهم وليس استهدافهم (الفقرة 70). وتسعى إسرائيل من خلال تصوير السكان المدنيين الفلسطينيين بالكامل على أنهم “منخرطون في المقاومة/الإرهاب”، إلى نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وبالتالي “يمكن القضاء عليهم” (الفقرة 70). ووفقاً للمقررة الخاصة، فإن “توسيع رقعة العمليات العسكرية على نطاق واسع إلى الضفة الغربية” يكشف عن “هدف استهداف الفلسطينيين خارج نطاق حماس” (الفقرة 71). وترى أن السلوك العسكري الإسرائيلي قد تجاوز بكثير حدود القوة المشروعة، حيث استهدف البنى التحتية المدنية وهياكل الحكم الفلسطيني (الفقرتان 71 و72).
وعلاوة على ذلك، تشير المقررة الخاصة إلى أن هدف إسرائيل المعلن في إنقاذ الرهائن يقوضه سلوكها، من خلال الأذى الذي ألحقته بالرهائن أنفسهم من خلال القصف العشوائي، وتخريب محاولات التفاوض، وإعطاء الأولوية الواضحة للسيطرة الإقليمية في غزة (الفقرة 74).
فهم النية في ارتكاب أعمال إبادة جماعية داخل الدولة
في هذا القسم، تتطرق المقررة الخاصة إلى مسألة مسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية. وتسلط الضوء على أن مسؤولية الدولة تنطوي على “أفعال أو إغفالات تؤدي إلى الإبادة الجماعية” (الفقرة 76). وبموجب القانون الدولي، تكون الدولة ملزمة بمنع الإبادة الجماعية وعدم ارتكابها والمعاقبة عليها (الفقرة 77). ووفقًا لمحكمة العدل الدولية، فإن التزام الدولة بمنع الابادة الجماعية ينشأ “بمجرد أن تصبح الدولة على علم، أو ينبغي أن تكون على علم بوجود “خطر جسيم بوقوع إبادة جماعية” (الفقرة 77). وتشمل الإجراءات، الالتزام بالتحقيق مع المشتبه في ارتكابهم جرائم الإبادة الجماعية والجرائم التبعية (الفقرة 77). ويجب أن يؤخذ العلم بخطر الإبادة الجماعية مع عدم التصرف لمنع الأعمال التمهيدية لها أو اتخاذ إجراءات للمعاقبة عليها على أنه مؤشر على نية ارتكاب الإبادة الجماعية. (الفقرة 77).
وفي نظام سيادة القانون، ينبغي لأجهزة الدولة ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية ـ أن تعمل على مراقبة بعضها البعض، وينبغي لها أن تكون قادرة على كبح التجاوزات “التي قد تتصاعد لتصبح إبادة جماعية” (فقرة 78). ولدى إجراء تقييم لتحديد نية الدولة لارتكاب الإبادة الجماعية، تبين المقررة الخاصة أن “عدم وفاء جهاز الدولة القائم في الظاهر على سيادة القانون” في تنفيذ هذه الضوابط، مع العلم بالعواقب، يجب النظر إليه “على أنه جزء لا يتجزأ من مجمل السلوك” (فقرة 78).
وسيؤدي تقييم متحفظ الى استنتاج مفاده أن أوامر محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/يناير 2024 كان بنبغي أن تؤدي، كحد أدنى، الى تفعيل واجب التصرف هذا. وكانت المحكمة قد أوعزت إلى إسرائيل على وجه التحديد بأن تمتنع عن القيام بمزيد من الأعمال التي قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ومنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والسماح بإيصال المساعدة الإنسانية، والحفاظ على الأدلة، وتقديم تقرير الى المحكمة يوضح بالتفصيل الخطوات المتخذة لتنفيذ الحكم في غضون شهر واحد (الفقرة 80). ولكن اسرائيل لم تمتثل لهذه الأوامر المؤقتة.
وبالإضافة إلى التصريحات التي تشير إلى نية الإبادة الجماعية المباشرة من جانب المسؤولين الإسرائيليين، توثق المقررة الخاصة كيف ساهمت الأجهزة المختلفة في الدولة الإسرائيلية في نية الإبادة الجماعية (الفقرة 81). وترى أن الهيئة البرلمانية الإسرائيلية، الكنيست، من خلال تمريرها للتشريعات الطارئة والموافقات على الميزانية، دعمت بشكل نشط إجراءات الحكومة (الفقرة 81 (ج)). وعلى نحو مماثل، فشل النائب العام في مقاضاة الأفعال “التحضيرية للإبادة الجماعية والمرتبطة بها” (الفقرة 81 (د)) وفشل القضاء الإسرائيلي في وضع أي قيود، مما أسهم في ثقافة الإفلات من العقاب المستمرة مع الاستمرار في تبييض الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي (الفقرة 81 (هـ)). وعلاوة على ذلك، ساعدت وسائل الإعلام الاسرائيلية العامة والتجارية وشجعت على الإبادة الجماعية في حين فشلت الهيئات التنظيمية في اتخاذ أي إجراء بشأنها (الفقرة 81 (و)). وفي سياقها الاستعماري الاستيطاني، لا تراقب أجهزة الدولة هذه بعضها البعض؛ بل تعمل بدلاً من ذلك على تعزيز وإدامة السلوك الإبادي الجماعي.
ساعدت وسائل الإعلام الاسرائيلية العامة والتجارية وشجعت على الإبادة الجماعية في حين فشلت الهيئات التنظيمية في اتخاذ أي إجراء بشأنها
استنتاجات
خلصت المقررة الخاصة إلى أن الإبادة الجماعية في غزة تهدد بالامتداد إلى جميع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي (الفقرة 83). فعلى مدى عقود من الزمان، أخضعت إسرائيل الفلسطينيين للقتل الجماعي والفصل العنصري والتهجير القسري والسجن الجماعي في إطار تحقيق هدف “إسرائيل الكبرى” الذي “يهدد بمحو السكان الفلسطينيين الأصليين” (الفقرة 83). وخلصت إلى أن إسرائيل تخفي نيتها بارتكاب الإبادة الجماعية من خلال رواية “الدفاع عن النفس”. (الفقرة 84).
وتشير الدكتورة ألبانيز إلى أن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين تبدو وكأنها وسيلة لتحقيق غاية، ألا وهي “الإزالة الكاملة أو الاسئصال الكامل للفلسطينيين من الأرض التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من هويتهم، والتي تطمع فيها إسرائيل بشكل غير قانوني وعلني” (الفقرة 84). ولا تقع المسؤولية على عاتق الأفراد الذين يتولون المسؤولية القيادية فحسب، بل تقع أيضاً على عاتق جهاز الدولة الإسرائيلي بأكمله الذي يدعم ويمكّن من صياغة وتنفيذ العنف الإبادي (الفقرة 86). وترى المقررة الخاصة أن هذه الإبادة الجماعية المستمرة هي “بلا شك نتيجة لمنح إسرائيل وضعاً استثنائياً وإفلاتها من العقاب الذي طال أمده“، على الرغم من انتهاكاتها المنهجية للقانون الدولي (الفقرة 87). “إن الدمار الذي لحق بحياة كل هؤلاء البشر هو إهانة للإنسانية ولكل ما يمثله القانون الدولي” (الفقرة 88).
التوصيات
تدعو المقررة الخاصة في توصياتها، إلى وقف المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي في فلسطين والتحقيق فيه وملاحقته قضائياً (الفقرة 89). وتحث الدول على الالتزام بالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية واتفاقيات جنيف، والنظر في الأدوات المتاحة لها للوفاء بهذه الالتزامات وتخفيف خطر الانتهاك المستمر (الفقرة 90). وسواء كانت الدول تعمل بمفردها أو مجتمعة، فإنها تصر على أن الدول يجب أن تشرح للجمهور والمجتمع الدولي الخطوات التي اتخذتها والأسباب الكامنة وراء تصرفاتها (الفقرة 90).
وتحث المقررة الخاصة الدول الأعضاء على ما يلي (الفقرة 91):
(أ) استخدام كل ما لديها من نفوذ سياسي – بدءًا بفرض حظر كامل على الأسلحة وعقوبات – حتى تكف إسرائيل عدوانها على الفلسطينيين وتقبل بوقف إطلاق النار وتنسحب انسحاباً كاملاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة بما يتماشى مع فتوى محكمة العدل الدولية الصادرة في 19 يوليو 2024.
(ب) الاعتراف رسميًا بإسرائيل كدولة فصل عنصري ممعنة في انتهاك القانون الدولي، وإعادة تفعيل لجنة الأمم المتحدة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري لمعالجة الوضع في فلسطين بشكل شامل، وتحذير إسرائيل من احتمال تعليق عضويتها وفقاً للمادة 6 من ميثاق الأمم المتحدة.
(ج) دعم نشر وجود وقائي دولي في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة؛
(د) وضع إطار حماية للفلسطينيين المهجرين خارج قطاع غزة، بما يتماشى مع القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي لللاجئين، مع الحفاظ الكامل على حقهم في العودة؛
(هـ) دعم إجراء تحقيقات مستقلة وشاملة في السلوك الإجرامي، بما في ذلك الإبادة الجماعية والفصل العنصري، بسبل منها تطبيق الولاية القضائية العالمية في المحاكم الوطنية على المشتبه في ارتكابهم هذا السلوك الإجرامي، بما في ذلك جميع الجرائم التبعية ذات الصلة؛
(و) التحقيق مع الكيانات الاعتبارية والمواطنين المزدوجي الجنسية الضالعين بجرائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وملاحقتهم قضائياً، بما يشمل الجنود والمرتزقة والمستوطنين؛
(ز) ضمان دعم المساعدة الإنسانية لغزة من دون عوائق والتمويل الكامل والحماية الكاملة للأونروا، بما في ذلك من الهجمات على مبانيها وموظفيها ومن حملات التشهير لتشويه سمعتها، وضمان استمرارية ولايتها في جميع الميادين”.
وتحث المقررة الخاصة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق في ارتكاب اسرائيل جرائم الإبادة الجماعية والفصل العنصري وتوسيع نطاق طلبات إصدار أوامر الاعتقال (الفقرة 92).
وأخيرًا، توصي المقررة الخاصة اللجنة الدولية المستقلة المعنية بالتحقيق في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وفي إسرائيل بالتحقيق في “السياق الأوسع لنوايا وممارسات اسرائيل للقضاء على جميع الفلسطينيين […]، ومن بينهم أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية واللاجئون، وأعمال الإبادة الجماعية الأخيرة” (الفقرة 93).