تحت المجهر: ادعاءات استخدام الجماعات الفلسطينية المسلّحة ل ” الدروع البشرية ” وتحقيق المحكمة الجنائية الدولية
إعداد: نداء يوسف *
تحرير: هبة بعيرات
مراجعة: عبد الغني سيد وإحسان عادل
* لتحميل الورقة بصيغة pdf، انقر هنا (12 صفحة)
* كُتب هذا المقال ضمن سلسلة مقالات حول مسؤولية الفصائل الفلسطينية المسلحة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذلك ضمن دعوة الاستكتاب التي كانت أطلقتها منظمة القانون من أجل فلسطين بهذا الخصوص.[1]
مقدمة
بتاريخ 05/02/2021، أصدرت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية قراراً باختصاص المحكمة النظر في الجرائم التي يعتقد بارتكابها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة بالإضافة إلى القدس الشرقية.
على الرغم من أنّ القرار عنى الكثير على المستوى الوطني الفلسطيني المتمثّل بمحاسبة اسرائيل على جرائمها ضد الفلسطينيين، خاصّة تلك المرتكبة في حرب غزة عام 2014، تساءل قانونيون عمّا يعنيه القرار فيما يخص الادعاءات الموجّة للجماعات الفلسطينية المسلحة في غزّة بارتكاب جرائم حرب، ومن ضمنها استخدام دروع بشرية خلال الحرب مع اسرائيل.
ستتناول هذه الورقة مسألة استخدام الدروع البشرية وفق قوانين الحرب والقوانين ذات العلاقة في الحالة الفلسطينية المعروضة أمام المحكمة الجنائية الدولية. تسعى هذه الورقة لإلقاء الضوء على التوصيف القانوني لهذه الجريمة في كل من القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، كما تعالج مسألة ادّعاء استخدام الفصائل الفلسطينية المسلحة للدروع البشرية، وتحلل المسؤولية القانونية المرتبة على ذلك، وتتناول أثر ذلك في محاولة اسرائيل التملّص من مسؤولياتها بالتمييز وعدم القيام بالهجمات العشوائية.
خلفية مفاهيمية
–تعريفات قانونية حول استخدام الدروع البشرية
بالنظر إلى تعامل النصوص القانونية مع مفهوم الدروع البشرية في كل من اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949؛ والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، والميثاق المؤسِس للمحكمة الجنائية الدولية (ميثاق روما)، تعرّف اللجنة الدولية للصليب الاحمر المصطلح على أنّه “استخدام تواجد أو تحركات المدنيين أو الأشخاص المحميين من غير المدنيين لغرض جعل أهداف عسكرية محدّدة محمية وآمنة بمواجهة العمليات العسكرية”.
وعادة ما يتم تناول استخدام الدروع البشرية إمّا في الكتيبات العسكرية الخاصّة بالدول، كبريطانيا ونيوزلندا مثلا، أو من خلال الإدانات الدولية المتبادلة حول حوادث معينة تم استخدام الدروع البشرية فيها.
ويمكن استخدام الأمثلة المذكورة في بعض هذه الكتيبات والحوادث على سبيل المثال لا الحصر، لتبيان المقصود باستخدام الدروع البشرية. ومن هذه الأمثلة: نقل المدنيين إلى أماكن تواجد عسكرية استراتيجية بهدف تأمين وحماية هذه الأماكن، واستخدام أسرى الحرب لحماية الأهداف، أو وضع المدنيين في أماكن تواجد الأسلحة والذخيرة، أو وضع المدنيين في الصفوف الامامية أثناء المواجهة لحماية الوحدات العسكرية.
يمكن الاستخلاص من تعامل الدول مع حوادث استخدام الدروع البشرية أن استخدامها يتطلب تشاركاً مقصوداً لمواقع عسكرية مع مواقع و/أو أشخاص مدنيين أو أشخاص عاجزين عن القتال مع توافر القصد الخاص لمحاولة منع استهداف تلك النقاط أو الأهداف عسكرية.
-القوانين الفاعلة فيما يخص استخدام الدروع البشرية
تتضمن المادة 21 من ميثاق روما للعام 1998، والذي يحكم عمل المحكمة الجنائية الدولية، قائمة القوانين التي ينبغي إعمالها من قبل المحكمة عند النظر في القضايا الجنائية المعروضة أمامها، ويشمل ذلك النظام الأساسي نفسه -ميثاق روما-، ويمكن للمحكمة أن تستعين بالمحاضر الرسمية لجمعية الدول الأطراف لميثاق روما الأساسي، فيما يتعلق بأركان الجريمة والقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الخاصّة بالمحكمة. ثمّ، في مرتبة ثانية، تطبق المحكمة المعاهدات الدولية ذات الصلة، ومبادئ القانون الدولي الإنساني الخاص بالمنازعات المسلّحة. وفي المرتبة الأخيرة، يكون للمحكمة تطبيق المبادئ العامّة للقانون، والتي تستقى من النظم القانونية المختلفة في العالم.
وبالعموم، نجد أن القوانين الفاعلة فيما يتعلق بقضية استخدام الدروع البشرية خلال الحرب تنبثق أساساً من القانون الدولي الإنساني، والذي يمثل الإطار الأشمل للقوانين المتبعة والمطبّقة في حالات الحرب، سواء في شقه العرفي، أو في شقه التعاقدي، حيث وردت نصوص تتعلق باستخدام المدنيين دروعا بشرية في كل من اتفاقيات لاهاي عام 1907 وتحديداً الاتفاقية الرابعة الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، واتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بأسرى الحرب، واتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالمدنيين المحميين، والبروتوكول الإضافي الأول الخاص بالمدنيين. وفي القانون الجنائي الدولي، تم تناول هذه المسألة في ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية.
الإطار القانوني الدولي بخصوص استخدام الدروع البشرية
-القانون الدولي الإنساني العرفي
جرت في الآونة الأخيرة محاولات تدوين القواعد العرفية في القانون الدولي الإنساني من قبل لجنة الصليب الأحمر الدولية والتي أفرزت قاعدة بيانات تحتوي على جميع هذه القواعد. وفيما يتعلق باستخدام الدروع البشرية، تبرز القاعدة رقم 97 من القانون الدولي الإنساني العرفي والتي تحرّم استخدام الدروع البشرية في النزاعات المسلحة.
وفي العديد من الحالات، تم التعامل مع استخدام الدروع البشرية على أنه يوازي فعل أخذ الرهائن من المدنيين، والذي تحرّمه المادة 4 (2) (ج) من البروتوكول الإضافي الثاني والقاعدة رقم 96 من القانون الدولي العرفي. كما أن تعمّد استخدام المدنيين لتأمين العمليات العسكرية يناقض مبدأ التمييز ويخرق الالتزام بأخذ كل التدابير الممكنة لفصل المدنيين عن الأهداف العسكرية.
-اتفاقيات لاهاي
نصت اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية على تحريم استهداف المدنيين. وفي المادّة 27، تناولت مسؤولية أطراف النزاع لأخذ الاحتياطات والتدابير اللازمة لتحصين المناطق والمراكز المدنية من الهجمات العسكرية. وتنص المادّة المذكورة على أنه: “في حالات الحصار أو القصف، يجب اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتفادي الهجوم، قدر المستطاع، على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية والآثار التاريخية والمستشفيات والمواقع التي يتم فيها جمع المرضى والجرحى، شريطة ألا تستخدم في الظروف السائدة آنذاك لأغراض عسكرية. ويجب على المحاصرين أن يضعوا على هذه المباني أو أماكن التجمع علامات ظاهرة محددة يتم إشعار العدو بها مسبقاً”.
-اتفاقيات جنيف والبرتوكول الإضافي الأول
نصت اتفاقيات جنيف على تقديم ضمانات لحماية المدنيين من التعرض لهجمات عسكرية، من خلال التأكيد على أخذ أطراف النزاع الاحتياطات اللازمة لإبعاد المراكز المدنية عن الأهداف العسكرية، لكيلا تتعرض للإصابات. ورد النص على ذلك في اتفاقية جنيف الأولى لعام 1949 (المادّة 19 (2) والمادة 32 (1)، ونصت المادة 23 من اتفاقية جنيف الثالثة والمادة 28 من اتفاقية جنيف الرابعة على عدم استغلال وجود شخص محمي، أو أسير حرب، لجعل بعض النقاط أو المناطق في مأمن من العمليات العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، حظر البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 في مواده 12 (4) و51 (7) استغلال تواجد أو تحركات المدنيين لتحقيق غايات عسكرية “ولا سيما في محاولات حماية الأهداف العسكرية من الهجمات أو حماية أو دعم أو إعاقة العمليات العسكرية. لا يجوز لأطراف النزاع توجيه تحركات السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين لمحاولة حماية الأهداف العسكرية من الهجمات أو تغطية العمليات العسكرية”.
وفي سياق تحديد واجب ومسؤوليات أطراف النزاع بأخذ الاحتياطات اللازمة، جاءت المادّة 58 من البروتوكول الإضافي الأول لتنص على أن “تقوم أطراف النزاع، قدر المستطاع، بما يلي:
(أ) السعي جاهدة إلى نقل ما تحت سيطرتها من السكان المدنيين والأفراد المدنيين والأعيان المدنية بعيداً عن المناطق المجاورة للأهداف العسكرية، وذلك مع عدم الإخلال بالمادة 49 من الاتفاقية الرابعة،
(ب) تجنب إقامة أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب منها،
(ج) اتخاذ الاحتياطات الأخرى اللازمة لحماية ما تحت سيطرتها من سكان مدنيين وأفراد وأعيان مدنية من الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية.”
-ميثاق روما، أركان الجرائم – المحاضر الرسمية لجمعية الدول الأطراف لميثاق روما الأساسي:
نصت المادة 8 (2) (ب) (23) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن “الاستفادة من وجود مدني أو أي شخص محمي آخر لجعل بعض النقاط أو المناطق أو القوات العسكرية في مأمن من عمليات الجيش” يمثل جريمة حرب.
ولعلّ من أهم المواد التي تعنى بها المحكمة الجنائية الدولية عند البت في القضايا المعروضة أمامها، هي المواد الخاصّة بأركان الجريمة، والتي نشرت بهدف مساعدة المحكمة على تفسير وتطبيق مواد اتفاقية روما، وتم استنباطها بشكل أساسي من المحاضر الرسمية لميثاق روما الأساسي. أمّا بخصوص أركان جريمة استخدام دروع بشرية، المنصوص عليها في المادة رقم 8 (2) (ب) (23) سابقة الذكر، فهي كالآتي:
1- قيام المجرم بنقل أو الاستفادة من موقع واحد أو أكثر من المدنيين أو أشخاص آخرين من المحميين تحت القانون الدولي للمنازعات المسلحة؛
2- توافر القصد لدى المجرم لحماية هدف عسكري من هجوم أو حماية، تأييد، أو عرقلة عمليات عسكرية؛
3- وقوع الفعل الجرمي ضمن سياق نزاع دولي مسلّح أو لعلاقة بهذا النزاع؛
4- إدراك المجرم للظروف الموضوعية التي أسست لوقوع النزاع المسلّح
-السوابق القضائية حول استخدام الدروع البشرية
لقد سبق للمحاكم الجنائية الدولية النظر في قضايا استخدام مدنيين كدروع بشرية. وبالنظر إلى بعض القضايا المنظورة أمام هذه المحاكم، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة في القضية المعروضة أمامها فيما يخص المتهمين كارادزيك وملاديك، أقرّت بممارستهما عدة جرائم حرب ضد الصرب المسلمين والبوسنة، ومن ضمن هذه الجرائم كانت جريمة استخدام دروع بشرية. ونصت لائحة الاتهام الخاصة بهما على أنهما قاما بالتعاون مع آخرين بالتخطيط والتحضير والمساعدة بأخذ أفراد من قوى حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة كرهائن واستخدامهم كدروع بشرية، مع علمهم أو توافر السبب الكافي للاعتقاد بمعرفتهم عن قيام تابعين لهم بأخذ الرهائن من قوى حفظ السلام بقصد استخدامهم كدروع بشرية، وقد فشلوا باتخاذ التدابير اللازمة والمنطقية لمنعهم من فعل ذلك أو عقاب المجرمين على فعلتهم هذه. وفيما يعد، تمت إدانتهما بجريمة المعاملة اللاإنسانية بموجب المادّة 2 (ب) و7 (1)، و7(3) من ميثاق المحكمة، وخرق قوانين وأعراف الحرب (المعاملة الوحشية) بموجب المواد 3، 7(1)، 7(3) من ميثاق المحكمة.
وقد اعتمد قرار المحكمة على توافر القصد، وعلم المسؤولين، بالإضافة إلى عدم التزامهم باتخاذ التدابير اللازمة والمنطقية.
استخدام الجماعات المسلحة الفلسطينية الدروع البشرية
-توافر القصد الخاص
حاولت التقارير الإسرائيلية الدفاع عن الاتهامات الموجّهة إليها من قبل منظمات وجهات حقوقية حول خرقها لمبدأي التمييز والتناسب والإضرار بالمدنيين وممتلكاتهم، عبر الادعاء بأنها في حرب على الإرهاب، وأنّ أسلوب حماس في الحرب، الذي كان مستوحى من أسلوب حزب الله في لبنان، قد ارتكز على استخدام المدنيين كدروع بشرية من خلال إجبارهم على البقاء في بيوتهم، والتحرك والانخراط بين المدنيين والتموّه بلباس مدني، وتحويط المقاتلين بأطفال لتسهيل تحركاتهم، واستخدام منازل المدنيين وممتلكاتهم في العمليات وإطلاق الهجمات، واستدعاء مدنيين للتصرف كدروع بشرية لحماية المقاتلين.
ولفحص مدى انطباق أركان الجرائم على أفعال الفصائل، بالنظر إلى المادة رقم 8 (2) (ب) (23) من المحاضر الرسمية لميثاق روما الأساسي، التي تذكر عناصر جريمة استخدام دروع بشرية، يتبين لنا، فيما يبدو، أن الشروط الأولى (الاستفادة من موقع المدنيين) والثالثة (نزاع دولي مسلح) والرابعة (إدراك الظروف الموضوعية المؤسسة لوقوع النزاع) قد انطبقت فعلياً في حالة الفصائل الفلسطينية، يبقى لدينا إذاً الشرط الثاني وهو برأينا الأكثر الأهمية والمتعلق بالقصد الخاص للفصائل المسلحة الفلسطينية.
بالاستناد إلى القانون الإنساني الدولي العرفي والمواد السابق ذكرها أعلاه، خاصّة القاعدة رقم 22 من قواعد القانون الإنساني الدولي العرفي والتي تنص صراحة على أن: ” يتخذ أطراف النزاع جميع الاحتياطات الممكنة لحماية ما تحت سيطرتها من سكان مدنيين وأعيان مدنية ضد آثار الهجمات” والقاعدة 23 والتي تنص على أن: “يتجنب كل طرف في النزاع، قدر المستطاع، وضع أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو قريباً منها” والبروتوكول الإضافي الأول والمادّة 57 (2) والمادّة 28 من اتفاقية جنيف الرابعة، لتوضيح الاحتياطات الواجب اتباعها من الأطراف لغرض عدم إلحاق الأذى بحياة السكان المدنيين. فإنّ الحروب المقامة على أراضي قطاع غزة قد تمّت في مناطق ذات كثافة سكّانية عالية. وعليه، قد يتم القيام بعمليات عسكرية على مقربة من المدنيين، ليس بهذا القصد ذاته، ولكن بسبب طبيعة المكان والكثافة السكانية، فهل يعفي ذلك الفصائل من المسؤولية؟
كما يتبين لنا من الشرط الثاني لعناصر جريمة استخدام الدروع البشرية، يجب أن يتوافر القصد لدى الفصائل المسلحة باستخدام المدنيين المحميين في هذه المناطق ذات الكثافة السكانية لتوفير حماية أو تحقيق أهداف عسكرية. وهكذا، وفي حال لم تتوافر لدى لجنة التحقيق أدلّة كافية لإثبات القصد الخاص لدى الجماعات المسلحة والمتمثل بتوفر قصد استخدام المدنيين للحماية أو التصدي لهجمات عسكرية أو تحقيق غايات عسكرية، فإن ذلك لا يجعل جريمة استخدام دروع بشرية جريمة مكتملة العناصر.
ولعل من المهم أن نشير هنا كذلك إلى تقرير لجنة التحقيق الأممية في حرب عام 2014 في غزة، إذ ذكر التقرير (الفقرة 483) أنه ورغم إدانة النداء الذي أطلقه ناطق باسم حماس لسكان غزة لتبني ممارسة حماية منازلهم من الهجمات بالصعود على أسطح منازلهم، وعلى الرغم من أن الدعوة كانت موجهة إلى سكان غزة، إلا أنه يمكن رؤيتها وفهمها على أنها تشجيع للجماعات الفلسطينية المسلحة على استخدام الدروع البشرية. وفي تقديرنا، يعود موقف اللجنة هنا إلى مسألة “مدى توفر القصد”، كما سبق بيانه.
وفيما يتعلق بالمادة 58 من البروتوكول الإضافي الأول، التي تحدد واجب ومسؤوليات أطراف النزاع بأخذ الاحتياطات اللازمة لتجنيب تعرض المدنيين تحت سيطرتها للعمليات الحربية، نجد أنّ اللغة المستخدمة تؤكّد في أكثر من موضع على فكرة الاستطاعة وربط المسؤولية بمدى القدرة، وهذه مسألة هامّة من ناحية الخصوصية المكانية لغزة فهي منطقة جغرافية ذات مساحة صغيرة بكثافة سكانية عالية، فهي واقعة تحت الحصار الإسرائيلي منذ العام 2007 وتمتد على مساحة 360 كم2 بعدد سكان يصل إلى مليوني نسمة، وهذا أمر يجعلها ذات طبيعة مكتظة، ويعني أن إمكانية تجنيب المدنيين من التعرض للهجمات الاسرائيلية من قبل الجماعات المسلحة ستكون محدودة، وهنا لا يمكن التغاضي عن ميزان القوى عند الحديث عن الإمكانيات التي يمتلكها اطراف النزاع، ولا سيما القدرة المحدودة للجماعات المسلحة في غزّة، وهو أمر ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند تقييم المحكمة لمدى المسؤولية وجوانب التقصير.
صحيح أن هذا لا ينفي مسؤولية هذه الجماعات عن حماية المدنيين، ولكن ما يهم هنا هو إثبات أو نفي حدود القدر المستطاع اتخاذه عملياً، وبحسب الخصوصية المكانية والزمانية وميزان القوى الذي يحدد لكل طرف قدرته في اتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين وتجنيبهم مخاطر الحرب.
وهذا بالضبط ما كان أشار إليه تقرير جولدستون، وهو تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في نزاع غزة لحرب عام 2008-2009. حيث كانت البعثة قد تلقت العديد من التقارير التي تشكّل اتهاماً للفصائل الفلسطينية بأنّ أفراداً منها لم يتخذوا التدابير الكافية لتمييز أنفسهم عن المدنيين، بل على العكس، اختلطوا بالمدنيين وارتدوا اللباس المدني أثناء معاركهم مع الإسرائيليين. وجاء ردّ البعثة بالقول إن عدم تمييز المقاتلين أنفسهم عن المدنيين لا يعتبر بحد ذاته خرقاً للقانون الدولي، وإنما قد يُحرم هؤلاء المقاتلون من بعض الامتيازات التي يمنحها القانون للمتحاربين. كما لم تجد البعثة دليلاً على أن أعضاء الجماعات المسلحة قد اشتركوا بمعارك بأزياء مدنية، وذكر تقرير غولدستون (فقرة 450)، أنه لم يصادف أي دليل على توفر النية الإجرامية المطلوبة لدى الفصائل الفلسطينية لحماية مقاتليها من هجمات قوات جيش الدفاع الإسرائيلي.
-التطوع كدروع بشرية والحماية القانونية
تذكر القوانين آنفة الذكر استخدام المدنيين كدروع بشرية، فكيف يعرّف القانون الدولي المدنيين وهل يختلف التعريف إذا ما قام الشخص المدني بالتطوع كدرع بشري؟
توضّح قوانين الحرب الدولية أنه لا يحق للأشخاص الذين يشاركون في أعمال العنف الحصول على الحماية التي توجبها القوانين للمدنيين، فالمدنيون الذين يشاركون في أعمال العنف يعرضون أنفسهم للهجمات من الطرف المقابل على اعتبار أنه هو الآخر يمارس حقه بالدفاع عن النفس.
يعرّف القانون الدولي الإنساني الشخص المدني على أنه أي شخص ليس مُحارباً، وبعكس المحاربين، فإن المدنيين غير ملزمين بحمل أي وثائق تعريفية أو ارتداء ما يميزهم من ملابس ورموز لتأكيد حالتهم المدنية أثناء النزاعات. كما أنه وفي حالة الشك بهوية الشخص، فإن القاعدة العامة هي اعتبار كل الأشخاص مدنيين إلّا إذا ثبت عكس ذلك، وعليه، يتمتع هؤلاء الأشخاص موضع الشك بالحماية اللازمة للمدنيين وفق القانون، بما في ذلك حمايتهم من جميع أشكال العنف والمعاملة المهينة، بما فيها القتل والتعذيب، ويحق لهم أيضاً في حال محاكمتهم الخضوع لمحاكمة عادلة توفر لهم جميع الضمانات القضائية الأساسية، كما تؤكّد ذلك القاعدة 6 من القانون الدولي الإنساني العرفي .
توضّح قوانين الحرب الدولية أنه لا يحق للأشخاص الذين يشاركون في أعمال العنف الحصول على الحماية التي توجبها القوانين للمدنيين، فالمدنيون الذين يشاركون في أعمال العنف من خلال استخدامهم أسلحة أو ممارسة دور مباشر في النزاع، يعرضون أنفسهم للهجمات من الطرف المقابل على اعتبار أنه هو الآخر يمارس حقه بالدفاع عن النفس.
ولكن، ماذا عن تطوع المدنيين ليكونوا دروعاً بشرية؟ هل يمثل ذلك مشاركة مباشرة منهم في العنف؟ بمعنى آخر، هل يجعلهم ذلك محاربين وينزع عنهم الصفة المدنية؟ وما أثر ذلك على تحديد مسؤولية الفصائل؟
من حيث المبدأ، هناك اختلاف في الآراء القانونية حول اعتبار المدنيين الذين يشاركون في النزاع مدنيين، فيناقش البعض تحولّهم بالصفة من مدنيين إلى مقاتلين، فعلى سبيل المثال، ينص دليل قانون النزاعات المسلحة الكندي (2001) في فصله المعنون “وضعية المقاتل” على أن المدنيين الذين يقومون بالمشاركة مباشرةً في الأعمال العدائية (بخلاف الهبات الجماهيرية) هم مقاتلون غير قانونيين، وبالتالي يفقدون حمايتهم كمدنيين ويصبحون أهدافًا مشروعة طوال الوقت الذي يقومون فيه بدور مباشر في الأعمال العدائية. أمّا الرأي الآخر، فيقول بأن ممارسة المدنيين في الأعمال العدائية لا يكسبهم بالنتيجة صفة المتحاربين، غير أنّهم وعند التوقف عن القتال أو عندما يصبحون عاجزين عن القتال تعود إليهم صفتهم المدنية السابقة. وفي حالات القبض عليهم من قبل الطرف المعادي تظل صفتهم المدنية ملتصقة بهم فلا يكتسبون صفة أسرى الحرب.
وفي النقاش حول ماهية “المشاركة المباشرة” في الأعمال العدائية وما إذا كانت تنزع عن المدنيين صفتهم المدنية وتكسبهم صفة المقاتلين، فقد حاجج (مايكل شميت) أن الدروع البشرية المتطوعة في النزاع ومن خلال عملها على جعل هدف عسكري ما محصنًا من الهجوم (أو المساهمة في تردد العدو في مهاجمته) تساهم في بقاء الهدف الذي يساهم بحكم تعريفه في العمل العسكري؛ وبالتالي، فإنهم هم أنفسهم يساهمون في هذا العمل بطريقة مباشرة للغاية.
وفي الواقع، من خلال تحصين الهدف العسكري ضد الهجوم كمسألة قانونية، تكون الدروع في كثير من الحالات أكثر فعالية من الدفاعات التقليدية مثل المدفعية المضادة للطائرات أو صواريخ أرض جو. وهذا ما دعا الكثيرين لتأييد رأي شميت ومساندته، وبالتالي تأييد نزع الصفة المدنية عن المتطوعين.
ولكن، من جهة أخرى، تم تفسير المشاركة المباشرة على أنّها المشاركة التي تشمل “القيام بعمل عدائي ضد الخصم. قتل أو أخذ السجناء؛ تدمير المعدات العسكرية، جمع المعلومات في منطقة العمليات؛ تشغيل أو الإشراف على تشغيل نظام أسلحة؛ خدمة أنظمة الأسلحة، نقل المعلومات المتعلقة بالأهداف والمشاركة في الأنشطة حول الخدمات اللوجستية للعمليات العسكرية”، وهو ما يتفق أكثر مع ما جاء في القانون الدولي الإنساني.
يستنتج (شانون بوش) أن الدروع البشرية المتطوعة في الأماكن ذات الطابع المدني تحتفظ بصفتها المدنية، ولا يمكن القول إنها تشارك مباشرة في الأعمال العدائية. بينما يمكن القول إن الدروع البشرية المتطوعة المتواجدة في المواقع العسكرية ذات الاستخدام الفردي (أو الحصري) تشارك بشكل مباشر في الأعمال العدائية مثل العمال في مصانع الذخيرة، فهي ليست أهدافًا عسكرية مشروعة، ولكن وجودهم في هدف عسكري مشروع يجعلهم عرضة للهجوم مع مراعاة أقل للأضرار الجانبية مما لو كانوا مدنيين مطمئنين. أمّا في حالة إثبات تواجدهم في مكان له طابع مزدوج مدني وعسكري، فيجب منح مواقع الحماية ذات الاستخدام المزدوج حالة مدنية حتى يحين الوقت الذي يمكن فيه عن طريق محكمة التثبت من حالتها العسكرية.
ويحاجج (عادل حق) في مقاله عن الدروع البشرية بأن المدنيين الذين يتم استخدامهم كدروع بشرية طوعاً يظلون محتفظين بحقوقهم الأساسية، ولكن ما يقومون به قد يضعهم في خانة المساومين على هذه الحقوق، وبالتالي إمكانية اعتبار بعضهم أضراراً جانبية للحرب، ولكنهم وعلى العموم يظلون محتفظين بصفتهم المدنية. أما أولئك الذين يتم استخدامهم كدروع بشرية جبراً فيظلون محتفظين بحقوقهم الأساسية، ومبدأ التناسب في حالة اعتبارهم أضراراً جانبية لا ينقض بل يظل قائماً ولا يتأثر.
نستنتج مما سبق أنّ صفة التطوع كدروع بشرية في المبدأ لا تنزع الحالة المدنية والحماية القانونية الموجبة لها بحسب القانون الدولي، بل يظل الشخص المتطوع مدنياً إلا في حال ثبت عكس ذلك، والحالة الوحيدة التي يتيح القانون الدولي للمدني أن يشارك في الحرب وأن تنطبق عليه قوانين الحرب بصفته العسكرية هي حالة الثورات الجماهيرية.
من جهة، فإنّه من الخطير إثبات تطوع المدنيين كدروع بشرية على صعيد اعتبار بعضهم أضراراً جانبية حتمية لم يكن بالإمكان تجنبها، أي إسقاط تهمة خرق مبدأ التناسب ومبدأ التمييز ومبدأ الإنسانية عن الطرف المُهاجِم في بعض الحالات. ولكن، ومن جهة أخرى، فإذا تم التعامل مع المدنيين المتطوعين على أنّهم مقاتلون بحسب وجهة نظر شميت وغيره من القانونيين ونزع الصفة المدنية عنهم، قد يكون من شأنه إسقاط التهمة عن الجماعات الفلسطينية بخصوص استخدامهم الدروع البشرية.
وفي كل الأحوال، فإن مسألة القصد الخاص مهمة هنا، وإذا ما كانت قد اتجهت النية إلى حماية الهدف العسكري وتحصينه من الهجوم المضاد قد توفرت. وتبدو هذه النقطة مهمة لا لفحص مسؤولية المدنيين المشاركين والفصائل الفلسطينية وحسب، ولكن لفحص مدى مسؤولية إسرائيل عن مهاجمة هذه الأهداف واتساع هامش الخسائر الجانبية بين المدنيين.
وعلى أي حال، يحاجج (عادل حق) بمنطق الممارسة العملية والسياق العسكري أنّ القيادة العسكرية للدولة التي تقوم بالمهاجمة لا تكون في حالة يسمح معها التفريق بين المدنيين المتطوعين والمكرهين من الدروع البشرية، فالسياق العسكري يجعل هذه المسألة شبه مستحيلة خلال فترة الهجوم، وعليه تكون مسألة الهجوم مع العلم بوجود دروع بشرية بغض النظر عما إذا كانوا متطوعين أم مكرهين مسألة واحدة ويجب تجريمها في كلتا الحالتين فيما يخص الطرف المهاجم.
أمّا فيما يخص الطرف الآخر، وهي الجماعات الفلسطينية المسلحة، في هذه الحالة يمكننا طرح التساؤل الأكثر أهمية في هذا الخصوص ألا وهو: هل إثبات نزع الصفة المدنية عن المتطوعين يُبقي وفي الآن ذاته على مسؤولية الجماعات المسلّحة الفلسطينية عن استخدام مدنيين كدروع بشرية؟ وهل يكون الجانب الفلسطيني في وارد المساومة على حقّه بمسائلة اسرائيل عن جرائمها ضد بعض المدنيين الذين ثبت تطوعهم كدروع بشرية؟ لا يبدو أن هناك إجابة محددة بالخصوص، حيث للحالة الفلسطينية في قطاع غزة خصوصية ستقول المحكمة كلمتها في شأنها، كما أن وقائع جديدة قد تظهر خلال تحقيقات المحكمة ترجح هذه الكفة أو تلك.
يبقى أن نشير إلى أن تقرير لجنة التحقيق الأممية في حرب عام 2014 في غزة (الفقرة 483) كان ذكر أنه، في إحدى الحالات، وبعد قيام الجيش الإسرائيلي بالتحذير للقيام بقصف منزل محدد، توجه عدة أشخاص إلى سطح المنزل من أجل “الحماية. وخلص التقرير إلى أنه إذا تم توجيههم للقيام بذلك من قبل أعضاء الجماعات المسلحة الفلسطينية، فإن هذا من شأنه أن يرقى إلى استخدام وجود المدنيين في محاولة لحماية هدف عسكري من الهجوم. وبالتالي، لو كان المدنيون قاموا بذلك من تلقاء أنفسهم، فلا يمكن تصور وجود مسؤولية.
الاستنتاجات والخاتمة
ستحاول اسرائيل الدفاع عن نفسها -سواء من خلال المحكمة أو بخطابها السياسي – فيما يخص ارتكاب جرائم حرب بالادّعاء أن الجماعات الفلسطينية المسلحة هي جماعات إرهابية وأن الحرب على غزة كانت حرباً على الإرهاب، وأنّ ما قامت به هذه الجماعات هو استخدام المدنيين كدروع بشرية، إلّا أن ذلك سيواجه عقبات تتعلق بخصوصية الحالة الفلسطينية وخصوصية القطاع بالمكان والإمكانيات التي تدور حول “الاحتياطات اللازمة في حدود المستطاع” في حماية المدنيين وتجنيبهم الهجمات العسكرية، وتوفر القصد لدى الفصائل المسلحة لاستخدام المدنيين دروعاً بشرية، كما قد لا يعفي إسرائيل في كل الأحوال عن خرق مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني في تعاملها مع الفلسطينيين، ولا سيما مبدأي التمييز والتناسب، ومبدأ الإنسانية، والتي تلزمها بالتمييز بين المدنيين والمقاتلين وتوجيه الهجمات إلى اهداف عسكرية فقط، وتقييم ما يسمى ب”الغاية العسكرية المباشرة” من الهجوم الموجه ضد الأهداف العسكرية ومقدار الإصابات والأضرار العارضة التي قد تلحق بالمدنيين لئلا تكون هذه الأضرار مفرطة، وتقييم وسائل وأساليب الحرب المستخدمة بحيث تتسبب في الحد الأدنى من المعاناة غير الضرورية.
أما فيما يتعلق بمسؤولية الفصائل المسلحة الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية حول استخدام دروع بشرية، فلا نملك إجابة محددة تماماً حول توجه المحكمة بهذا الخصوص، إلا أننا نعتقد بعدم توفر أركان الجريمة في ظل غياب الأدلة على ذلك كما سبق أن ورد في التقارير الأممية السابقة وخاصة تقرير جولدستون وتقرير لجنة التحقيق الأممية لعام 2014، فالمؤكد، حتى الآن، هو أن ادعاء قيام الفصائل باستخدام الدروع البشرية غير مصحوب بأدلة، وحتى مكتب المدعي العام للمحكمة ليس لديه أدلة في هذا الشأن كما يبدو، ذلك لأن الأدلة المتاحة لنا هي نفس الأدلة المتاحة لمكتب المدعي العام في هذه المرحلة من التحقيق، حيث أن قراءة سريعة لمصادر المعلومات في تقارير التحقيقات الأولية السنوية خلال العقد السابق تشير إلى أنه في فترة التحقيق الأولي تلك، تكون مصادر المعلومات بشكل أساسي هي مصادر متاحة للجميع (Open source research/investigation)، ويعني ذلك التقارير المنشورة من جانب الكيانات الحكومية وغير الحكومية وكل ما هو متاح على شبكة الإنترنت، ونكاد لا نرى اعتمادًا على مصادر سرية أو معلومات غير متاحة للجميع في هذه المرحلة من التحقيق.
وبالتالي، واستناداً لما أظهرته إسرائيل على الإنترنت من ادعاءات ومقاطع مصورة وصور، وهو ذاته المتاح لمكتب الادعاء العام للمحكمة، وهو في رأينا غير كاف لانعقاد أركان الجريمة.
قد تتوجه المحكمة بالطبع توجهاً مختلفاً وقد تظهر وقائع جديدة خلال التحقيق تشير إلى تورط الفصائل المسلحة بالخصوص وقد تقول المحكمة كلمتها في مسألة المشاركة الطوعية لسكان القطاع في حماية أعمال الفصائل المسلحة العسكرية من ناحية توفر القصد الخاص من عدمه وانطباق أركان الجريمة والاحتفاظ بصفة المدنيين أو التحول إلى مقاتلين. هذا لا يعني بحال إعفاء الفصائل المسلحة من الالتزامات القانونية الأخرى، كما لن يكشف هذا سوى الزمن والبدء الفعلي بالتحقيقات.
__________________________
[1] لا تتحمل القانون من أجل فلسطين أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء المنظمة. تتعهد القانون من أجل فلسطين بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.
——
* نداء يوسف: باحثة قانونية وعضو فريق البحث في منظمة القانون من أجل فلسطين. تحمل يوسف البكالوريوس في القانون فرعي ترجمة إنجليزية، وماجستير في الديمقراطية وحقوق الإنسان. عملت كمساعدة بحث في معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان في جامعة بيرزيت، وشاركت في مشاريع بحثية بدعم من GLOBAL CAMPUS OF HUMAN RIGHTS