في مرمى النيران:
المحكمة الجنائية الدولية وتحديات تقييم مزاعم استخدام الدروع البشرية من قبل الفصائل الفلسطينية المسلحة
إعداد: آنه نغوين*
تحرير ومراجعة: حسان عمران
ترجمة وتدقيق: أسماء لظن وأحمد المصري
* لتحميل الورقة بصيغة pdf، انقر هنا
* كُتب هذا المقال ضمن سلسلة مقالات حول مسؤولية الفصائل الفلسطينية المسلحة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذلك ضمن دعوة الاستكتاب التي كانت أطلقتها منظمة القانون من أجل فلسطين بهذا الخصوص[1].
-
المقدمة
حافظت دعوى استخدام “الدروع البشرية” على موقعها كواحدة من أبرز مزاعم جرائم الحرب خلال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. في ضوء قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية بشأن الولاية القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في مناطق غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، ستحلل هذه المقالة المعايير القانونية للإدانة باستخدام الدروع البشرية بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) من نظام روما الأساسي. وستحدد أولاً كيفية التأطير للدروع البشرية على أنها “حرب بالقانون ” تؤطر دعوى جرائم الحرب التي نجمت عنها، ثم سيتم تحديد الدعاوى المتعلقة بالفصائل الفلسطينية والواقعة ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. يحلل القسم التالي عناصر الجريمة بموجب المادة 8 (2) (ب) (23). بينما يتناول القسم الأخير موضوع “الدروع البشرية الطوعية” وأين تقع ضمن الخطاب الحالي.
-
الدروع البشرية كشكل من أشكال الحرب القانونية
عندما يستخدم طرف من أطراف الحرب مدنيين لحماية أهدافه العسكرية، فإنه يفرض قرارًا مفتعلًا على خصمه إما للمضي قدما في الهدف العسكري وانتهاك مبادئ القانون الدولي الإنساني، أو الالتزام بالقانون الدولي الإنساني والتخلي عن الهدف العسكري المشروع. توصف هذه الممارسة بأنها “حرب قانونية”، وتعني استخدام القانون أو بالأحرى إساءة استخدامه كبديل للوسائل العسكرية التقليدية لتحقيق هدف عسكري. يشار إلى استغلال القانون الدولي في قواعد سلوك الحرب باسم “معركةالقانون في ساحة المعركة” أو “الامتثال للضغط القانوني“. تستفيد الأطراف التي تستخدم هذه المعركة من إجبار الخصم على احترام القانون الدولي الإنساني الذي لا يعتمد على المعاملة بالمثل؛ أي أن انتهاك مبادئه من قبل طرف واحد لا يعفي الخصوم والأطراف الأخرى من التزاماتهم القانونية بموجب القانون الدولي الإنساني.
إن تحديد جرائم الحرب المزعومة المتمثلة في استخدام الدروع البشرية أمر معقد بسبب الوجود الحتمي للمدنيين في حرب المدن التي شنت في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. من ناحية أخرى، يمكن للمقاتلين استغلال المزايا التكتيكية للتمويه داخل “فوضى” المدن، لأنه بالالتزام بمبدأ التمييز، لا يمكن للخصم بسهولة استهداف عدو يتحرك دون تمييز وسط عدد من المدنيين، لأنه “يتمتع بملاذ قانوني آمن مثل قلعة مليئة بالمدافع المضادة للطائرات.” من ناحية أخرى، يمكنهم جعل التزاماتهم بموجب القانون الدولي الإنساني نسبية من خلال إثبات أنه نظرًا لأن القتال يحدث أثناء تواجد المدنيين، فمن غير الممكن الالتزام بمبدأ التمييز أو التدابير الاحترازية، حيث لا يمكن لهذه المتطلبات في الواقع أن تتحقق بسبب طبيعة حرب المدن.
القتال في منطقة مكتظة بالسكان، مثل غزة، وهي واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، يعني أن طرفًا ما قد يخاطر بتوجيه هجوم يتسبب في أضرار جانبية للمدنيين، ما يؤدي إلى إستراتيجية أخرى للحرب القانونية، يؤكد فيها أحد الأطراف لاحقًا أنه على الرغم من الخسائر المدنية التي تسبب بها، إلا أنه لم يتم انتهاك مبدأ التمييز، حيث كان من الممكن أن تُعزى هذه الخسائر إلى الدروع البشرية التي توفر غطاءً لأهداف عسكرية مشروعة، حتى لو كانت الخسائر مفرطة مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة، وهكذا، يمكن القول إن وجود الدروع البشرية يبرر “استبعاد“ مبدأ التناسب. وبالتالي، فإن الدعاوى بارتكاب جرائم حرب بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) من نظام روما الأساسي يتم تأطيرها بشكل عام من حيث هاتين الاستراتيجيتين الخاصتين بالحرب القانونية: في الحالة الأولى، يتم استغلال آثار “الدرع البشري” من وجودٍ للمدنيين في سبيل تحصين الأهداف المادية المشروعة أو المقاتلين أنفسهم من الهجمات؛ وفي الحالة الثانية، يتم تصنيف المدنيين على أنهم دروع بشرية بعد وقوع الهجمات لإضفاء الشرعية على هجوم عشوائي أو هجوم أدى إلى وقوع إصابات غير مقصودة.
-
مزاعم السلوك التي ترقى إلى جرائم الحرب في المادة 8 (2) (ب) (23) من نظام روما الأساسي الخاضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية
بتاريخ 1/1/2015، قدمت فلسطين طلباً للمحكمة بقبول اختصاصها اعتبارًا من 13/6/2014 فصاعدًا، وبالتالي فإن الجرائم المزعومة التي ارتكبت بعد هذا التاريخ هي فقط التي تخضع للتحقيق والإدانة. يمكن للحالات الثلاث التالية أن تكون ذات صلة بالمناقشة الجارية حول هذه المسألة:
(1). إطلاق الصواريخ من مناطق مدنية: تشمل نقاط الإطلاق المزعومة مرافق تعليمية ومنشآت تابعة للأمم المتحدة والصليب الأحمر ومساجد ومحطات توليد كهرباء ومستشفيات وفنادق. خلال حرب غزة عام 2014. بثت قناة France24 لقطات لقاذفات صواريخ حماس خارج المنازل، ومبنى للأمم المتحدة، وفندق كان يقيم فيه صحفيون. كما يقول جيش الدفاع الإسرائيلي إنه يملك سجلاً موثقاً، بما في ذلك لقطات فيديو لهذه الحوادث المزعومة التي نشرها قسم المعلومات العسكرية الاستراتيجية.
(2). استخدام المنشآت المدنية لأغراض عسكرية: كان أحد الأهداف البارزة خلال حرب غزة عام 2014 هو مبنى مستشفى الوفاء، الذي اعتبره الجيش الإسرائيلي “مركز قيادة”، وموقع إطلاق صواريخ، ونقطة مراقبة، وموقع قناص، ومرفق تخزين أسلحة، وغطاء للبنية التحتية للأنفاق. هذا مثال على مزاعم الهجمات العشوائية التي قوبلت بمزاعم على نفس القدر من الخطورة حول استخدام الدروع البشرية. كما أفادت الأمم المتحدة بأن هناك صواريخ مخبأة في ثلاث من المدارس التي تديرها الأونروا، والتي تقود العديد من المنافذ، ليتم ربط هذا الاكتشاف بمزاعم تخزين أسلحة حماس الاستراتيجية في المنشآت المدنية.
(3). الاحتجاجات على حدود غزة خلال 2018-2019 – مسيرة العودة الكبرى – وهي عبارة عن سلسلة من المظاهرات بالقرب من الحدود بين غزة وإسرائيل انطلقت اعتبارًا من 30 مارس 2018. حيث طالب المتظاهرون، خلال مظاهرات سلمية لم يجر فيها أي عمل مسلح من الجانب الفلسطيني، بالسماح للاجئين الفلسطينيين النازحين بالعودة إلى أراضيهم، واحتجوا على حصار غزة واعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبينما تم تنظيم المظاهرات الأولية من خلال أنشطة مستقلة، فقد أيدتها حماس لاحقًا مما جعل هذه الاحتجاجات خاضعة لمزاعم الجيش الإسرائيلي بأنها واجهة “دروع بشرية طوعية” لحماس لشن هجمات ضد إسرائيل. ومع ذلك، فقد أوضحت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن هذه الاحتجاجات أن الحالات التي وقعت فيها مواجهة بين حماس وإسرائيل واشتملت على إطلاق صواريخ كانت “خارج سياق المظاهرات”.
-
معايير الإدانة بارتكاب جرائم حرب بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) من نظام روما الأساسي
4.1 معيار الإثبات والأركان المكونة للجريمة
عملاً بالمادة 66 (3)، تتطلب الإدانة بارتكاب جرائم بموجب نظام روما الأساسي إثبات كل عنصر من عناصر الجريمة بما لا يدع مجالاً للشك بوقوعه. ورأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية المدعي العام ضد ستاكيتش أن الأمر قد تحقق عندما كان الاستنتاج المستمد من الأدلة المقدمة هو “الاستنتاج المعقول الوحيد” الممكن. ومع ذلك فإن المعيار، كما أكده المدعي العام في تعليقه على حكم الدائرة الابتدائية في قضية المدعي العام ضد ماتيو نغودجولو، لا يتطلب إثبات الجرم “بما لا يدع مجالاً للشك”، مما يعني إثبات أو دحض جميع الفرضيات المتنافسة بشأن الجرم أو البراءة.
العناصرالمكونة للمادة 8 (2) (ب) (23) هي:
- تحرك مرتكب الجريمة باتجاه أو استغلاله موقع واحد أو أكثر من المدنيين أو الأشخاص الآخرين المحميين بموجب القانون الدولي للنزاع المسلح.
- أن ينوي مرتكب الجريمة حماية هدف عسكري من الهجوم أو حماية العمليات العسكرية أو تسهيلها أو إعاقتها.
- أن يصدر السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ويكون مرتبطاً به.
- أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت وجود نزاع مسلح.
4.2 حرب غير متكافئة في الأراضي المحتلة كنزاع مسلح دولي؟
يعتبر العنصران الثالث والرابع من العناصر التأسيسية المشتركة لجرائم الحرب بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي. بالنظر إلى أن جرائم الحرب تعاقب على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، يجب تفسير العناصر المكونة بموجب المادة 8 (2) من النظام الأساسي في الإطار الثابت للقانون الدولي للنزاع المسلح. فيما يتعلق بالعنصر الرابع، لا يوجد شرط لإجراء تقييم قانوني من قبل الجاني لوجود نزاع مسلح أو طابعه على أنه دولي أو غير دولي، أي أن الجاني يحتاج فقط إلى أن يكون على دراية بالظروف الواقعية التي من شأنها أن تثبت وجود نزاع مسلح.
ومع ذلك، بالنسبة للعنصر الثالث كونه من العناصر الأكثر موضوعية للسلوك من ناحية حدوثه في سياق نزاع دولي وارتباطه به، فلا بد من فحص الاعتبارات الأكثر تعقيدًا؛ يثور السؤال الأول حول ما إذا كانت النزاعات غير المتكافئة بين الدولة والجماعات غير الحكومية، في حالتنا بين إسرائيل وحماس، في الأراضي المحتلة، كما في فلسطين، يمكن وصفها بأنها “نزاع دولي مسلح”. والثاني هو ما إذا كان القانون الدولي الإنساني ينطبق بالتساوي على كلا الجانبين في الحروب غير المتكافئة على الأراضي المحتلة. هذه الأسئلة حاسمة، لأنه بدون إثبات وجود نزاع دولي مسلح، فإن أي سلوك مزعوم للدروع البشرية لن يعاقب عليه بموجب المادة 8 (2) (ب) (23)، التي تعاقب على وجه التحديد جرائم الحرب في النزاعات المسلحة الدولية.
وفقًا للقاضي كاسيسي، الرئيس السابق للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة بلبنان، فإن “النزاع المسلح الذي يحدث بين قوة محتلة وجماعات متمردة أو ثائرة … في الأراضي المحتلة، يرقى إلى مستوى نزاع مسلح دولي”. (كاسيسي 2005، 420). وقد لاحظت محكمة العدل الدولية في فتواها بشأن الجدار (الفقرات 90-101) أن قانون النزاع المسلح الدولي ينطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما وسعت المادة 1 (4) البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف من معنى النزاعات المسلحة الدولية لتشمل “النزاعات المسلحة التي تقاتل فيها الشعوب ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية في ممارسة حقها في تقرير المصير”. ومع ذلك، لا يزال البعض يجادل فيما إذا كان احتلال غزة ما يزال مستمرًا بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2005، في المقابل أشار البعض إلى “سيطرة إسرائيل الكافية” على المجال الجوي والحدود البرية، وبالتالي على الإمدادات الإنسانية. على أية حال، موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن خلال عشرات القرارات التي صدرت عنها، كذلك لجان التحقيق الأممية في الحرب على غزة أعوام 2009 و2014 و2019، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن قطاع غزة لا يزال أرضا محتلة، وبالتالي نحن أمام نزاع مسلح دولي.
إذا كانت إسرائيل لا تزال تُعتبر قوة محتلة بعد تاريخ الفصل 13/6/2014 للولاية القضائية المؤقتة للمحكمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن قواعد النزاعات المسلحة الدولية ستطبق وفقًا للمادة 2 (2) المشتركة من اتفاقيات جنيف، التي تغطي الاحتلال بعد نزاع مسلح دولي. لا يمنع الوضع غير الواضح للإقليم من تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة. يوجد احتلال بمجرد أن تكون الأرض تحت السيطرة الفعلية لدولة لا تملك السيادة الأصلية المعترف بها للمنطقة، وبالتالي فإن قابلية التطبيق لا تتوقف على الاعتبارات الذاتية للمحتل (انظر تعليق 2016 على اتفاقيات جنيف، المادة 2، الفقرة 324، 327). وهكذا، تطبق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية أو حماس قواعد النزاع المسلح الدولي (راجع باولو سوفاشا مادزي، 113-115، 2009).
ومن الملاحظ أن الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية قد قررت صراحة في قرارها الصادر في فبراير 2021 أن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصا مناطق غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، تقع ضمن اختصاصها (الفقرات 114 وما يليها، انظر خصوصًا 121-123 )، واعتبرت أن تلك المناطق هي “الأراضي الفلسطينية المحتلة”. وهو ما يؤشر إلى وضع إسرائيل المستمر كقوة احتلال، وبالتالي وجود نزاع مسلح دولي. وهذا من شأنه أن يفتح مجال تطبيق جرائم الحرب بموجب المادة 8 (2) (أ) و (ب) للسلوك في الأراضي المذكورة، والذي قد يشمل مزاعم استخدام الدروع البشرية.
4.3 التعارض بين دعاوى استخدام الدروع البشرية والقتال في المناطق المكتظة بالسكان
الفعل الإجرامي الوارد في المادة 8 (2) (ب) (23) يتضمن إما “تحريك” المدنيين بشكل مباشر أو “الاستفادة” من وجودهم من أجل حماية هدف عسكري من الهجوم أو تشكيل درع أو دعم أو إعاقة للعمليات العسكرية. يمكن ربط طريقة العمل الأولى لحركة المدنيين بسهولة أكبر بهدف تحقيق ميزة عسكرية، وبالتالي يتم تحديدها على أنها سلوك يمكن أن يشكل الفعل الاجرامي للمادة 8 (2) (ب) (23). ومع ذلك، من الصعب تحديد الأفعال المحددة للطريقة الثانية، “الاستفادة” من وجود المدنيين، خاصة عندما يدور القتال في منطقة حضرية مكتظة بالسكان، مثل غزة، حيث يعمل أفراد القوات المسلحة أو الجماعات المسلحة بالقرب من المدنيين أو بينهم.
يمكن لتقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للنتائج التفصيلية للجنة التحقيق في حرب غزة 2014 أن يكون بمثابة نقطة انطلاق لكل من التحليل الواقعي والقانوني حول هذه المسألة، حيث تم إتاحته للمجتمع الدولي. لاحظت اللجنة فيما يتعلق بإطلاق الصواريخ من مناطق مكتظة بالسكان واستخدام منشآت مدنية لأغراض عسكرية أن الالتزام بتجنب تواجد الأهداف العسكرية إلى أقصى حد ممكن داخل مناطق مكتظة بالسكان لم يتم الالتزام به دائمًا (الفقرة 478). فيما يتعلق بحرب المدن في غزة، يقدم تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الملاحظة التالية:
473. […] على أطراف النزاع اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لحماية السكان المدنيين والأهداف المدنية الواقعة تحت سيطرتهم من آثار الهجمات وإلى أقصى حد ممكن تجنب وضع أهداف عسكرية داخل أو بالقرب من مناطق مكتظة بالسكان. .] صغر حجم غزة وكثافتها السكانية يجعل من الصعب بشكل خاص على الجماعات المسلحة الامتثال دائمًا لهذه المتطلبات. لاحظت اللجنة الدولية للصليب الأحمر […] أن عدة بعثات […] علقت على أنه بخصوص البلدان المكتظة بالسكان، سيكون من الصعب تطبيق شرط تجنب وضع أهداف عسكرية داخل مناطق مكتظة بالسكان “.
من الجدير بالذكر أن هذه ملاحظات تتمحور حول مخاطر انخراط الأطراف من كلا الجانبين في استخدام الدروع البشرية. ولم يتوصل التقرير إلى أي نتائج أو استنتاجات تفيد بأن الدروع البشرية كانت في الواقع تستخدم من قبل الفصائل الفلسطينية. وقد أشارت تقارير ووسائل إعلامية مختلفة عن أن مزاعم، استخدام حماس للدروع البشرية، هي مجرد “أسطورة” وأنه لا يوجد دليل ملموس يدعم هذه المزاعم.
إن الالتزام باتخاذ الاحتياطات أثناء الهجوم يقع في إطار المادة 57، في حين أن الالتزام باتخاذ الاحتياطات ضد آثار الهجمات منصوص عليه في 58 من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جينيف. تحدد كلا المادتين معايير الاستهداف أو قرارات العمليات القتالية الأخرى للامتثال لـ القاعدة الأساسية للتمييز، ويؤكد تعليق 1987 على البروتوكول الأول أنه “من الواضح أن الاحتياطات المنصوص عليها هنا ستكون ذات أهمية قصوى في المناطق الحضرية لأن هذه المناطق مكتظة بالسكان.” ومع ذلك، فإن الالتزام المنصوص عليه في المادتين 57 و58 يشير إلى الاحتياطات “الممكنة”، وهو معيار يمكن استغلاله من قبل الأطراف المتنازعة، لا سيما في حرب المدن لتناسب التزاماتهم. أما فيما يتعلق بقرارات الاستهداف، تحدد بعض الكتيبات العسكرية واجبًا إضافيًا للحصول على أفضل المعلومات الاستخبارية الممكنة، بما في ذلك معلومات عن تجمعات الأشخاص المدنيين، وتحديداً الأهداف المحمية، والبيئة الطبيعية والبيئة المدنية للأهداف العسكرية (القاعدة 15 من القانون الدولي الإنساني العرفي).
بينما تحدد المادة 57 احتياطات المهاجم في قرار الاستهداف، تحدد المادة 58 المكملة للمادة 57 (جنسن 2016، 155) التزام المدافع بإبعاد المدنيين والأهداف المدنية من جوار الاعتراضات العسكرية (الاستهداف). بينما تشيرالفقرة (أ)، لتجنب وضع أهداف عسكرية داخل أو بالقرب من مناطق مكتظة بالسكان، تشير الفقرة (ب) لاتخاذ “الاحتياطات اللازمة الأخرى” لحماية المدنيين والأهداف المدنية الواقعة تحت سيطرة أحد الأطراف من مخاطر العمليات العسكرية. وتشير الفقرة (ج) إلى أن التعيين الاستراتيجي للأهداف المدنية أو الأهداف المحمية بطريقة أخرى وتمويهها ك “حرباء”، أي تغيير مظهر الهدف من مدني إلى عسكري أو العكس يمكن اعتباره أيضًا “استفادة”، نظرًا لأن الاعيان المدنية من المحتمل أن تستتبع وجود المدنيين، على سبيل المثال المستشفيات والمدارس ودور العبادة (راجع تعليق عام 1987، API، المادة 58، الفقرة 2254).
تشتمل الأمثلة على التدابير الفعالة التي تُظهر الالتزام بالمادة 58 الإخلاء وتنسيق خدمات الطوارئ واتخاذ تدابير دفاع مدني أخرى مناسبة أو إذاعة تحذيرات مثل إنذارات الغارات الجوية(Rogers 1996, 76). كما يعتبر وضع التكنولوجيا المتقدمة، مثل أجهزة الاتصال وأجهزة الاستشعار والعلامات كإجراء احترازي “ممكن” (راجع Jensen 2016، 170-170). جميع الأفعال المنصوص عليها في المادة 58 من البروتوكول الأول، إذا تم التقيد بها، من شأنها أن تلغي الاستفادة من الوجود المدني، حيث تم تصميم هذه القواعد لتجنب أو تقليل الخسائر المدنية العرضية على أساس تقييمها للمعلومات من جميع المصادر المتاحة للمهاجمين في الوقت المناسب (التقييم المسبق). وبالتالي، فإن إرساء السلوك أو اتخاذ القرار العسكري وفقًا للمادة 58، سيشكل ظروفاً مبرئة من دعاوى الدروع البشرية، خاصة إذا كان من الممكن إثبات ذلك على الرغم من الصعوبة الواقعية للتقيد يالقواعد في حرب المدن.
فيما يتعلق بـ “الجدوى العملية” بموجب المادة 58، أفاد مقرر الفريق العامل في المؤتمر الدبلوماسي الذي ادى إلى اعتماد البروتوكولات الإضافية أن هذه المادة تعكس قلق الدول ذات المناطق الصغيرة و/أو ذات الكثافة السكانية العالية، والتي أكدت أنها سوف تجد صعوبة في فصل المدنيين والأهداف المدنية عن الأهداف العسكرية، وأنه حتى الدول الكبيرة تجد مثل هذا الفصل صعبًا أو مستحيلًا في كثير من الحالات (انظرالقاعدة 22 من القانون الدولي الإنساني العرفي). تم تصور مفهوم “الجدوى العملية” بحد ذاته من خلال الحرب الحضرية المأهولة بالسكان بشكل خاص في الحسبان، مما يعني أن حقيقة منطقة غزة المكتظة بالسكان لن تمنع تطبيق المادة 58، بل على العكس ستبرر بقوة تطبيقها. نظراً لتاريخ المادة 58، فمن الأرجح أن الإخفاق في الالتزام بالمادة 58 يمكن اعتباره “استغلالًا” تكتيكيًا متعمدًا مشبوهًا بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) [على النقيض من ذلك، فلماذا تتجنب القوات المسلحة واجبات “عزل وحماية” المدنيين عن ساحة المعركة، (راجع جنسن 2016، 148). مما سبق، فإن “الصعوبة” الكامنة في اتخاذ مثل هذه الاحتياطات في المناطق المكتظة بالسكان لن يكون لها وزن على الأرجح في تبرير عدم الامتثال. ومع ذلك، لإجراء مناقشة شاملة حول كيفية إثبات الخصوصية المكانية لغزة، والقدرات غير المتكافئة للأطراف في إثبات أو نفي النطاق العملي بموجب المادة 58، راجع المقالة التالية.
4.4 النية المحددة لاستخدام الدروع البشرية مقابل الفشل في اتخاذ الاحتياطات
أما بخصوص العنصر الثاني؛ القصد الجنائي الذي يجب أن يحمله مرتكب الجريمة ويعني النية فيما يتعلق بالسلوك وعواقبه. بالنظر إلى أن السلوك العسكري قائم أساساً على الإستراتيجية، والذي يتضمن بطبيعته استغلال الميزة التكتيكية للتضاريس، فإن هذا يشكل عقبة أمام تقييم النقطة التي تشكل فشلاً في الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وبدءً لنية استغلال وجود المدنيين. إن الحوادث مثل دعوة المتحدث باسم حماس للمدنيين للعمل كدروع بشرية بالوقوف على أسطح منازلهم أثناء الغارات الجوية أو العثور على كتيبات عسكرية تدعو لمثل هذه الممارسات في تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (الفقرة 472، 483) هي مؤشرات على النية، ولكن لا يمكن ترسيخها لإثبات وجود عملية صنع قرار مقصودة لاستغلال الوجود المدني المرتبط بالسلوك بحيث يمكن اعتباره تنفيذًا لتلك الاستراتيجية العسكرية. من المرجح أن يكون تحديد نية محددة بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) مرتبطًا بإثبات الانتهاك المتعمد للمادة 58، على سبيل المثال. قرار متعمد بتجنب الاحتياطات، والتي يمكن تتبعها في صنع القرار أو الخطط من قبل أعضاء في مناصب قيادية في مواجهة هجوم محتمل أو بدء عمليات من الجانب الآخر أو أثناء علمه بإمكانية وقوعها.
4.5الأحكام القضائية بخصوص الدروع البشرية
تقتصر السوابق القضائية المتعلقة بالدروع البشرية على تحليل غير مباشر أجرته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والذي اعتبر استخدام الدروع البشرية شكلاً من أشكال المعاملة اللاإنسانية أو القاسية أو أخذ الرهائن في بلاشكيتش (الفقرات 711 و714 و716 و750):
“711. […] يُزعم أنه شارك في […] استخدام المحتجزين […] في الخطوط الأمامية […] كدروع بشرية. وهكذا وُضع المعتقلون في وضع خطير حول (أو في) المباني التي تشكل أهدافًا عسكرية […]
- الشاهد هروستيك كان جالسًا في حفرة مقابل الفندق: […] قال أحد الجنود، […] “ستجلس هنا الآن وتترك شعبك يقصفك، لأنهم مستمرون في قصفنا الى الآن […]
في قضية ألكسوفسكي (الفقرة 129)، اعتُبر استخدام الدروع البشرية انتهاكًا للكرامة الشخصية، بينما وجدت المحكمة في ناليتيليتش ومارتينوفيتش (الفقرة 283) أن السجناء أُجبروا على حمل بنادق خشبية كدروع بشرية. في كورديتش وشركيز، نقضت دائرة الاستئناف تهمة المعاملة اللاإنسانية للسجناء الذين أُجبروا على حفر الخنادق، على أساس أن الإدانة استندت إلى شهادة الشهود التي أكدت فقط رؤية الخنادق المحفورة حديثًا (الفقرة 919)، وبالتالي لم تكن هناك دلائل واقعية حول الاستخدام الفعلي للدروع البشرية في حكم الدائرة الابتدائية (الفقرة 940). تشير نتائج المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلى أن شهادة الشهود يمكن أن تستوفي متطلبات المادة 8 (2) (ب) (23)، ولكن فقط عندما يكون التفسير المباشر للاستخدام الفعلي للأشخاص كدروع موجوداً.
4.6ملاحظات حول التمييز بين الدرع البشري والغدر
يجب التمييز بين الاستفادة من وجود المدنيين، من وجهة نظر متزمتة، وبين الاستفادة من القتال بين المدنيين من خلال “الاندماج” والتظاهر بوضع المدنيين غير المقاتلين من خلال تجنب استخدام شعارات المقاتلين أو التظاهر بالوقوع ضمن الفئات المحمية عن طريق الاستخدام النشط لإشارات وشعارات الأمم المتحدة أو الصليب الأحمر أو الكيانات المماثلة. يُعرف هذا باسم حظر الغدر بموجب المادة 37 من البروتوكول الإضافي الأول، ولكن فقط عندما يتم اللجوء إليه كحيلة لقتل أو جرح أو أسر الخصم، هنا يشكل الغدر جريمة حرب للقتل أو الجرح بموجب المادة 8 (2) (ب) (11) في النزاعات المسلحة الدولية وكذلك بموجب المادة 8 (2) (هـ) (9) في النزاعات غير الدولية (على عكس الدروع البشرية).
-
دروع بشرية طوعية
عندما يجنّد المدنيون أنفسهم طواعية لخلق عقبة مادية أمام العمليات العسكرية لأحد أطراف النزاع، فيمكن اعتبارهم مشاركين بشكل مباشر في الأعمال العدائية، التي يجب أن يتحقق فيها معيار الضرر، بحيث يجب أن يكون هناك تحذير مباشر وعلاقة عدائية مباشرة بين السلوك والضرر المترتب عليه. ولأن الدروع البشرية تُستخدم لإجبار الخصم على فرض ضوابط ذاتية على نفسه لضمان الامتثال للقانون الدولي الإنساني، مما يقلل من فعالية سلوكه، فإنه يمكن الطعن في ما إذا كان التأثير المعاكس (الضرر) يجب أن يشكل عقبة مادية أو ما إذا كان يمكن اعتبار لترتيب قيود قانونية إضافية آثار سلبية.
أفاد تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية أنه كان هناك اتفاق عام خلال اجتماعات الخبراء على أن الدروع البشرية غير الطوعية لا يمكن اعتبارها مشاركة مباشرة في الأعمال العدائية، بينما لم يتمكن الخبراء من الاتفاق حول ما اذا كان التصرف كدرع بشري طوعي يرتقي إلى مستوى المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية أم لا. هذا سؤال بالغ الأهمية، نظرًا لأن الدروع البشرية الطوعية لا تتمتع بوضع المقاتل، إذا تم القبض عليهم كمشاركين “بحكم الواقع”، فلن يتم اعتبارهم أسرى حرب وبالتالي لن يتمتعوا بالحصانة من الإجراءات القانونية بموجب القانون المحلي للأفعال المرتكبة أثناء الأعمال العدائية. في نهاية المطاف، يخلص تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن الدروع البشرية الطوعية تعتبر في الممارسة العملية عقبة قانونية وليست عقبة مادية للعمليات العسكرية، وبالتالي فإن سلوكها لا يرتقي إلى مستوى المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية. حقيقة أن بعض المدنيين ينتهكون طواعية وبشكل متعمد حقهم القانوني في الحماية من الهجوم المباشر من أجل حماية أهداف عسكرية لا يترتب عليه فقدان الحماية ووضعهم كمدنيين (انظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2009، 56). يمكن الاطلاع على تحليل شامل لتحليل القانون الدولي الإنساني بشأن الدروع البشرية الطوعية ومسألة غزة في هذا المقال.
بالانتقال إلى مزاعم استخدام الدروع البشرية الطوعية من قبل المتظاهرين خلال احتجاجات حدود غزة 2018/2019. في هذا الصدد، ظهر منظور جديد لدول العالم الثالث حول القانون الدولي “تويل” ويشير إلى حالات مثل “الدروع البشرية القريبة”، في حين أن “القرب لا يشير إلى السكان المدنيين المحاصرين في مدينة محاصرة أو بالقرب من القوات العسكرية التابعة للدولة داخل منطقة حرب، بل يشير إلى المدنيين المحاصرين بالقرب من المقاتلين غير النظاميين [في الحالة الحالية حماس]، الذين يتم تصويرهم عادةً على أنهم إرهابيون […] يتلاعبون بـ “الدرع القريب” الذي لديه القدرة على جعل مناطق حضرية بأكملها أهدافًا مشروعة […] يندرج إطار عمل ” الدرع البشري ” ضمن مفهوم” الحرب الشعبية ضد الاستعمار”. كما يندرج ضمن اعتبارات الإطار القانوني الذي ينطبق على الحرب غير المتكافئة في الأراضي المحتلة التي تم التطرق إليها بإيجاز أعلاه، بالنظر إلى أن هذه المجموعة الفريدة من نوعها للمدنيين الذين يعيشون في ظل الاضطرابات المدنية والنزاع المسلح والاحتلال ويقاومونها.
-
الخلاصة
عند تقييم الاستخدام المزعوم للدروع البشرية أو استغلال وجود المدنيين لتحقيق مكاسب عسكرية بما يشكل جريمة حرب، يجب أن يكون هناك وعي بنوع الحرب القانونية، ما إذا كانت تسعى لتحصين الأهداف المشروعة أو إضفاء الشرعية اللاحقة على الهجوم العشوائي. في الخطاب الحالي، يقدم تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول حرب غزة 2014 والأحكام القضائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بشأن استخدام الدرع البشري كمعاملة لا إنسانية مرجعين مهمين في إعادة بناء الحقائق وجمع الأدلة لإثبات جرائم الحرب بموجب المادة 8 (2) (ب) (23) من ميثاق روما، إن إنشاء الفعل الإجرامي والقصد الجنائي بموجب المادة 8 (2) (ب) (23)، خاصةً. فيما يتعلق بعنصر “الاستفادة”، يتطلب أخذ اعتبارات متأنية حول ما إذا كان القتال في منطقة مكتظة بالسكان مثل غزة يقيد قدرة المقاتلين على الالتزام بمبادئ القانون الدولي الإنساني المتمثلة في التمييز في الهجوم والسلوك والتقيد بالتزامات اتخاذ الاحتياطات الممكنة. وما إذا كان المقاتلون في الواقع يتلاعبون بمعايير حرب المدن من أجل مصلحتهم العسكرية.
[1] لا تتحمل القانون من أجل فلسطين أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء المنظمة. تتعهد القانون من أجل فلسطين بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.
آنة نغوين: خريجة قانون من جامعة فيينا ، في مجال القانون الدولي العام. تعمل حاليًا كزميلة في شركة دولية لتسوية المنازعات في فيينا ، النمسا.