أسئلة وأجوبة: ماذا يعني قرار المحكمة الجنائية الدولية انعقاد اختصاصها في فلسطين ؟*
مقدمة
بتاريخ 5 شباط/فبراير 2021، قررت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية، بأغلبية قضاتها، أن المحكمة لها اختصاص قضائي على إقليم دولة فلسطين، والذي يشمل الضفة الغربية، قطاع غزة، والقدس الشرقية، باعتبارها دولة طرف في ميثاق روما.
جاء هذا القرار من الدائرة التمهيدية للمحكمة، نتيجة لإحالة قامت بها المدعية العامة قبل سنة، بعد أن خلصت إلى وجود أساس معقول لفتح تحقيق في الجرائم المزعوم ارتكابها في دولة فلسطين. في الإحالة، طلبت المدعية العامة من الدائرة التمهيدية، تحديد النطاق الإقليمي الذي يمكن فيه للمحكمة أن تمارس اختصاصها (هل يشمل الضفة الغربية، أم قطاع غزة، أم المناطق المصنفة (أ) وفق اتفاقية أوسلو؟ أم ماذا).
وتبعاً لذلك، تم تقديم عشرات المذكرات أمام الدائرة التمهيدية، من دول ومنظمات وأكاديميين، إما لدفعها باتجاه الحكم باختصاص المحكمة، أو لثنيها عن ذلك وإغلاق هذا الملف. وبقرار المحكمة الذي نتحدث عنه، تم حسم هذا النقاش. وقررت الدائرة أن للمحكمة اختصاصا على الوضع في فلسطين المحتلة عام 1967. فماذا يعني قرار المحكمة الجنائية الدولية انعقاد اختصاصها في فلسطين ؟ ما أهمية هذا القرار بالنسبة لدولة فلسطين؟ على ماذا استند وما هي أبعاده وما الخطوات القادمة المتوقعة؟
ملخص قرار الدائرة التمهيدية – المحكمة الجنائية الدولية انعقاد اختصاصها في فلسطين
- فلسطين “دولة” للغايات المقصودة في ميثاق روما، وعضويتها فيه صحيحة:
في قرارها المذكور، قالت الدائرة التمهيدية بأنه ليس من اختصاص المحكمة الإجابة على سؤال إذا ما كانت فلسطين دولة أم لا، حيث تعد تلك مسألة سياسية بالغة التعقد تخرج عن اختصاص المحكمة. لكن الدائرة أكدت على استنتاجها أن فلسطين دولة طرف في النظام الأساسي (ميثاق روما)؛ وتعتبر هي “الدولة التي وقع السلوك المعني على أراضيها” لأغراض المادة 12 (2) (أ) من النظام.
وفي التفاصيل، أوضحت الدائرة أنه ووفقا للمادة 125 (3) من ميثاق روما المنشئ للمحكمة، فالميثاق مفتوح لانضمام الدول، حيث تودع الدولة التي ترغب بالانضمام للميثاق صك الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وقد نصت المادة 119 (2) من الميثاق على أن “أي نزاع بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف فيما يتعلق بتفسير أو تطبيق هذا النظام الأساسي، والذي لم تتم تسويته من خلال المفاوضات في غضون ثلاثة أشهر من بدئه، يحال إلى جمعية الدول الأطراف”.
ونوهت الدائرة التمهيدية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في أداء مهامه كجهة وديعة للمعاهدات، يسترشد بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (فيما يتعلق بما إذا كانت تعتبر كيانًا معينًا أنه دولة أم لا). لذلك، فإن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 لعام 2012، والذي نص على منح فلسطين وضع “دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة “، يجعل فلسطين بالتالي قادرة على إيداع وثائق الانضمام وتصبح طرفًا في أي معاهدة مفتوحة للدول.
وبينت المحكمة أن الأمين العام للأمم المتحدة كان قد وزع وثيقة انضمام فلسطين لميثاق روما على الدول الأطراف، ولم تبد أي دولة طرف في حينه، باستثناء كندا، أي معارضة في ذلك الوقت. وبعد انضمامها، قامت فلسطين بدور نشط في جمعية الدول الأطراف، وشارك ممثلو فلسطين في الاجتماعات وقدموا مقترحات، وهو حق لا تملكه إلا الدول الأطراف، كما ساهمت فلسطين في ميزانية المحكمة.
ومع أن هناك 7 دول، وهي جمهورية التشيك والنمسا وأستراليا والمجر وألمانيا والبرازيل وأوغندا، قدمت اعتراضات على قبول فلسطين كدولة طرف أمام المحكمة مؤخرا. إلا أن هذه الدول كانت التزمت الصمت عند انضمام فلسطين في العام 2015، ولم يعترض أي منها على انضمام فلسطين أمام جمعية الدول الأطراف في ذلك الوقت أو بعده. وهكذا، فإن انضمام فلسطين إلى النظام الأساسي اتبع الإجراءات الصحيحة.
وأكدت المحكمة على أن هذا التقييم يمكّن المدعية العامة من الوفاء بالتزامها ببدء تحقيق في الوضع الحالي، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للمحكمة في نهاية المطاف، وفقًا للنظام الأساسي، بممارسة اختصاصها على الأشخاص الذين يُزعم أنهم ارتكبوا جرائم تدخل في اختصاصها. وهو ما يتفق مع غرض المحكمة المتمثل في إنهاء الإفلات من العقاب عن طريق إثبات المسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم.
- للمحكمة اختصاص على الجرائم التي يُدَّعى بارتكابها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967:
وضحت الدائرة التمهيدية بأن إقليم دولة فلسطين يشمل الضفة الغربية، قطاع غزة، والقدس الشرقية، استناداً لقرار الأمم المتحدة عام 2012، رقم 67/19. بالتالي، يسري اختصاص المحكمة القضائي على هذا الإقليم. وبما أن الأطراف لم يتفقوا على حدود معينة وفقاً لاتفاقية أوسلو، تبقى الحدود على أساس القانون الدولي.
ونوهت الدائرة التمهيدية في قرارها إلى أن تطبيق وتفسير القانون يجب أن يكون متسقًا مع حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، ومن هذه الحقوق الحق في تقرير المصير، والذي تم الاعتراف به صراحة للشعب الفلسطيني من قبل هيئات مختلفة، بما في ذلك محكمة العدل الدولية. وقد ربطت الجمعية العامة للأمم المتحدة باستمرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بالأرض الفلسطينية المحتلة التي تم ترسيمها بالخط الأخضر، وشددت على الحاجة إلى احترام الوحدة الإقليمية والتواصل وسلامة جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة والحفاظ عليها. وأعاد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التأكيد على ذلك وأكد أنه لن يعترف بأي تغييرات على خطوط 4 حزيران / يونيو 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس.
وعلى ضوء ذلك، وجدت الدائرة التمهيدية أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في الوضع في فلسطين يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، أي غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
- اتفاق أوسلو لا يؤثر على ممارسة المحكمة لاختصاصها:
وضحت الدائرة التمهيدية رأيها فيما يتعلق باتفاقيات أوسلو، وما تم اثارته بخصوص أن اتفاقية أوسلو، التي جرى توقيعها بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993، تمنع القضاء المحلي الفلسطيني من ممارسة اختصاصه على حملة الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي لا يجوز لفلسطين تفويض هذا الاختصاص الذي لا تملكه أصلا للمحكمة الجنائية الدولية.
وهنا، وضّحت الدائرة التمهيدية أن هذا الأمر لا يتعلق بقرار الدائرة التمهيدية بإقرار اختصاص المحكمة القضائي على إقليم دولة فلسطين، وأن هذه المسألة يمكن إثارتها حين تقوم أو إذا ما قامت المدعية العامة بإصدار مذاكرات توقيف او اعتقال بحق المتهمين، بحيث يمكن حينها الادعاء أن تنفيذ الطلب من قبل فلسطين سيتطلب منها خرق التزام تعاهدي قائم مسبقًا تم التعهد به لدولة أخرى، عملاً بالمادة 98 من ميثاق روما، التي تنص على أنه لا يجوز للمحكمة تقديم طلب لدولة قد يجعلها تتصرف بشكل غير متسق مع التزاماتها بموجب قواعد الحصانة الدبلوماسية أو الاتفاقات التي تقيد صلاحياتها.
- دولة إسرائيل ليست طرفا في ميثاق روما، ما مدى أهمية القرار بالنسبة لهذه المسألة؟
على الرغم من أن دولة إسرائيل ليست طرف في ميثاق روما، إلا أن ذلك لا يؤثر شيئاً على الاختصاص القضائي للمحكمة على إقليم دولة فلسطين. استناداً للمادة (13) من ميثاق روما، يكفي أن تمارس المحكمة اختصاصها القضائي لمحاسبة مرتكبي الجرائم التي تم ارتكابها على إقليم دولة طرف، وبما أن دولة فلسطين طرف في ميثاق روما، بالتالي يحق للمحكمة ممارسة اختصاصها على إقليم دولة فلسطين، دون وجود حاجة لأن تكون دولة إسرائيل طرف في ميثاق روما.
- ولكن إسرائيل ليست حاضرة في مداولات المحكمة أيضاً (ليست ممثلة أمام المحكمة)، هل يجوز الحكم في أمر يمسها دون أن تكون موجودة (مبدأ النقد الذهبي Monetary Gold):
المحكمة في هذا السياق ردت قائلةً بأن هذا الموضوع له علاقة بالحدود والإقليم الذي تمارس عليه المحكمة اختصاصها، فالمحكمة مختصة بالنظر في المسؤولية الجزائية ما دامت مرتكبة على أراضي دولة طرف في المحكمة، ولا بد للمحكمة من حسم هذه المسألة وتحديد الأراضي التي يمكن لها ممارسة اختصاصها عليها. إضافةً الى أن القضاء الإسرائيلي غير راغب في اتخاذ اجراء حقيقي لمحاكمة مجرمي الحرب والقضاء الفلسطيني غير قادر على ممارسة هذه الصلاحية بسبب القيود المفروضة منذ 1967 في الأوامر العسكرية والتي مفادها أن إسرائيل منعت محاكمة الإسرائيليين أمام المحاكم الفلسطينية، وهو ما تم تثبيته في اتفاق أوسلو وما تلاه.
وبكل الأحوال، أكدت المحكمة على أن قرارها يقتصر بشكل صارم على مسألة الولاية القضائية المنصوص عليها في طلب المدعي العام، ولا ينطوي على أي قرار بشأن النزاعات الحدودية بين فلسطين وإسرائيل. وبالتالي، لا يجوز تفسير القرار الحالي على أنه تحديد لأي مسألة قانونية أخرى تنشأ عن الأحداث في الوضع في فلسطين سواء بموجب النظام الأساسي أو أي مجال آخر من مجالات القانون الدولي.
- سيطرة حماس على قطاع غزة، كيف تعاملت المحكمة مع هذه القضية؟
لم تتطرق المحكمة إلى هذه المسألة بشكل مباشر، ولكن هذا يُفهم ضمنياً من خلال قرارها التعامل مع الأراضي الفلسطينية كوحدة جغرافية واحدة بالرغم ممن يسيطر عليها. هذا الأمر يعتمد على معيار قانوني وهو أن الأرض المحددة تدخل في اختصاص المحكمة بما أنها تتبع للدولة ويعيش عليها مجموعة من السكان تم ارتكاب جرائم بحقهم بغض النظر عمّن يبسط سيطرته عليها.
تنويهيات إلى مسائل أخرى لم يتطرق لها قرار المحكمة
- استناداً لاتفاقيات أوسلو، لا يحق للقضاء الفلسطيني محاسبة أو محاكمة الإسرائيليين، ما مدى تأثير ذلك؟
على الرغم من أن الإسرائيليين لا يمكن محاسبتهم أمام القضاء الوطني الفلسطيني، إلا أن ذلك لا يؤثر على بدء سريان اختصاص المحكمة على إقليم دولة فلسطين. وذلك لعدة أسباب، أهمها، لا يمكن لاتفاقيات أوسلو مخالفة القانون الدولي، وإن خالفته فهو باطلة ولا يعتد بها. فالأولى حماية حقوق السكان المدنيين. ونقصد بذلك خاصة اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين، تسمو هذه الاتفاقية على جميع الاتفاقيات الموقعة بين أطراف -أوسلو على سبيل المثال- التي قد تضر بمصالح وحقوق السكان المدنيين. بالإضافة لذلك، تمارس المحكمة اختصاصها القضائي من خلال إحالة دولة طرف، وبهذه الحالة دولة فلسطين باعتبارها دولة طرف قدمت طلبها لبدء التحقيق في الجرائم التي تزعم أنه تم ارتكابها على إقليمها. وكما وضحنا سابقاً، تعرضت الدائرة التمهيدية لهذه النقطة ووضحت أن هذه الأمور يتم معالجتها إذا ما قررت المدعية العامية اصدار مذكرات توقيف او اعتقال لاحقاً.
فضلا عن ذلك، أشارت المحكمة إلى أن القضاء الوطني (الفلسطيني) غير قادر على المحاكمة، والقضاء الإسرائيلي غير راغب، والتالي تم تفويض صلاحية المحاكمة للمحكمة وفقاً لمبدأ التكاملية.
- ما هي طبيعة الاختصاص الزماني للاختصاص القضائي للمحكمة؟
بشكل عام، يسري اختصاص المحكمة على الجرائم التي تم ارتكابها بعد تاريخ 1 تموز/يوليو 2002، وهو تاريخ بدء سريان نفاذ ميثاق روما الأساسي. وفي حالة دولة فلسطين، يفترض أن يسري اختصاص المحكمة من الوقت الذي أصبحت فيه فلسطين رسميا عضوا في المحكمة، أي إبريل/نيسان 2015. إلا أن المادة (12/3) من ميثاق روما توضح أن الدولة تستطيع الطلب من المحكمة أن تمارس اختصاصها على جرائم تم ارتكابها قبل بدء سريان ميثاق روما بالنسبة لها. وهذا ما فعلته دولة فلسطين، حيث قامت بإيداع طلب لدى المحكمة، أعلنت فيه موافقتها على ممارسة المحكمة لاختصاصها القضائي على إقليم دولة فلسطين منذ تاريخ 13/6/2014. أي منذ بدء الحرب على غزة في ذلك الحين، والتي امتدت أكثر من 50 يوماً.
- ما هي الجرائم التي سيتم التحقيق فيها، وهل يمكن أن تشمل دولا أخرى تدعم إسرائيل بالسلاح مثلا؟
من المهم التنويه ابتداء، إلى أن الدائرة التمهيدية أشارت إلى أنه وعلى الرغم من أن المدعية العامة لم تعلن رسميًا أنها فتحت تحقيقًا في الوضع الحالي، فإن هذا التحقيق، من حيث المبدأ، قد فتح بالفعل من الناحية القانونية، كما أن المدعية العامة كانت قد حددت عددا من القضايا المحتملة لغايات المقبولية، ومنها جرائم يدعى بارتكابها من قبل السلطات الإسرائيلية، حماس، والمجموعات الفلسطينية المسلحة الأخرى.
ومن حيث المبدأ، يمكن للمحكمة أن تحقق في جرائم الحرب (كالقتل العشوائي وعدم التمييز وهدم الممتلكات والاستيطان). وهذا ما كانت ذكرته المدعية العامة في تقريرها قبل عام. ولكن يمكن للمحكمة أيضاً أن تقوم بالتحقيق في جرائم أخرى، كالأبارتايد، والجرائم ضد الإنسانية، ولكن ذلك يستدعي أيضاً تقديم ملفات ووثائق وبينات تدعم رواية أن هكذا جرائم تم ارتكابها في فلسطين.
وبالنسبة لشمول دول أخرى، يعود ذلك إلى قواعد القانون الجنائي. ولكن بالمبدأ، بالتأكيد، إذا ثبت أن هناك مشاركة أساسية من قبل دول أخرى أو حتى شركات في الأعمال التي تعد جرائم حرب في فلسطين، فسوف يكون ذلك في نطاق مسؤولية المحكمة.
- هل يمكن أن نشهد محاكمة لفلسطينيين من أعضاء الفصائل المسلحة أمام المحكمة؟
في الواقع، كانت المدعية العامة للمحكمة قد أشارت إلى جرائم يمكن أن تكون مجموعات فلسطينية مسلحة قد ارتكبتها، كالصواريخ العشوائية واستخدام المدنيين دروعاً بشرية، وهو أمر أشارت إليه المحكمة باقتضاب ودون تفاصيل. والأيام القادمة ستظهر هذا الأمر أكثر. لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار بعض المسائل، مثل: حق تقرير المصير والذي ينبث منه الحق في المقاومة، مبدأ الحق في الدفاع عن النفس، حيث كانت كثير من أفعال المقاومة في إطار الدفاع عن النفس -وهذا لا يعني بأي حال تبرير أن تقوم بممارسة انتهاكات-، فضلا عن ذلك، العديد من المسؤولين والفاعلين في حركات المقاومة والمجموعات المسلحة تمت محاكمتهم في السجون الإسرائيلية وحصلوا على أحكام عالية، وهناك مبدأ أساسي في المحكمة بعدم جواز المحاكمة على الفعل ذاته مرتين.
- ما هي تبعيات وأهمية هذا القرار؟
هذا القرار هو نتاج معركة قانونية طويلة أمام المحكمة؛ بدأت منذ عام 2009، وانتهت في 5 شباط/فبراير 2021: الذي يعتبر يوم تاريخي بالنسبة لفلسطين ومسألة الاحتلال الإسرائيلي. ولولا الجهد المبذول في تقديم الحجج القانونية أمام المحكمة لما كنًا أمام هذا القرار.
وتكمن أهمية هذا القرار في أن المحكمة تتعامل مع فلسطين باعتبارها دولة طرف في ميثاق روما، يتم معاملتها مثل ما يتم معاملة الدول الأطراف الأخرى في ميثاق روما، وأن حدود إقليم دولة فلسطين التي يسري عليها الاختصاص القضائي للمحكمة هي حدود عام 1967، أي الضفة الغربية، قطاع غزة، والقدس الشرقية. وهذا بدوره يدحض جميع الادعاءات والإدخالات التي قدمت للمحكمة بأن فلسطين غير دولة وبالتالي لا يجوز لها التمتع بعضوية ميثاق روما، كما أن المحكمة قالت إن مسألة الحدود هي محددة بموجب القانون الدولي العام، وبالتالي فإن هذا يدحض جميع الادعاءات التي كانت تدور حول أن مسألة حدود فلسطين غير محددة وأنها أحيلت للحل السياسي عبر المفاوضات التي تنظمها اتفاقية أوسلو. المحكمة بوضوح قالت بأن الاتفاق يمكن أن يتفقوا على ما يشاؤون، ولكن طالما لم يتفقوا بعد، فالحدود قائمة على أساس قواعد القانون الدولي.
وعلى الرغم من أهمية هذا القرار ألا أن أهميته تتجاوز مضمونه بإقرار الدائرة التمهيدية بسريان اختصاص المحكمة على إقليم دولة فلسطين إلى أمور أخرى مهمة في السياق الدولي. حيث يفهم من القرار أنه قد آن الأون لتوقف إسرائيل عن استمرارها في ارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين.
وهذا القرار يعطي أرضية جيدة لبدء دولة فلسطين استثماره والبناء عليها في قضايا مثل المستوطنات، مدينة القدس وتهجير أهلها، الحدود وحق العودة للاجئين. وبالخلاصة، هذا القرار يفتح المجال أمام معركة قانونية جديدة، تقتضي من الطرف الفلسطيني ومؤيديه البدء في تجهيز القضايا والشكاوى والبدء بحصر قائمة الجرائم والمسؤولين عنها.
- ما هو تأثير العقوبات الأمريكية على أعضاء المحكمة؟
في هذا الموقف أثبتت المحكمة أنها جريئة لصالح العدالة بعيداً عن موقف أي دولة قد مارست ضغطا عليها، والإدارة الأمريكية الجديدة لها توجه داعم للعدالة والذي يتضح من خلال التصريح الذي صدر عنها بعد قرار المحكمة المذكور. ويؤمل أنها سوف تقوم برفع العقوبات عن المحكمة.
- ماذا بعد؟ ما هي الخطوات القادمة؟
المرحلة القادمة هي مرحلة دقيقة تحتاج لكادر محترف ليقطف ثمار الجهد المتراكم. يجب أن تكون المرحلة القادمة بعيداً عن العمل السياسي وأن تتضمن أكاديميين وخبراء وحقوقيين وباحثين من أجل النظر في قضايا كالأسرى والاستيطان والفصل العنصري والتهجير والحرب على غزة بشكل متفحص ودقيق، وتدعيمها قانونيا، وإسناد الجرائم لمرتكبيها، مع التأكيد على ضرورة استمرار التوثيق للجرائم والانتهاكات الإسرائيلية.
هناك ملفات بحاجة لإقناع المحكمة ببراءة الفلسطينيين وإثبات الجرائم الإسرائيلية مع الاستفادة من التوثيقات التي تم جمعها حول الجرائم المرتكبة. وهذا أيضاً بحاجة لرصد ميزانيات عالية وكبيرة لتعزيز الجهود الحقوقية المبذولة والتي سوف تُبذل في إكمال مسار قضية فلسطين أمام المحكمة، وإعادة هيكلة اللجنة الوطنية الفلسطينية العليا لمتابعة ملف المحكمة الجنائية الدولية، بحيث تضم كادرا من الخبراء القانونيين، والعمل على توسيع صلاحياتها.
وعلى نقابة المحامين الفلسطينيين، والتي كان لها دور مهم في الوصول لهذا القرار من خلال المذكرة التي تقدمت بها للمحكمة، يقع عليها اليوم المزيد من العبء للعمل على خلق كادر قانوني من المحامين الدوليين من أعضاء هيئتها العامة.
كما أن هناك دورا منوطاً بأهالي الضحايا الفلسطينيين والنيابة العامة والنشطاء الحقوقيين من خلال قيامهم بالمتابعة القانونية مع عمل المحكمة، وتقديمهم تقارير وإفادات حول القضايا المنظورة أو التي يمكن تقديمها للمحكمة. حيث أنه من حق أي جهة تقديم مذكرات أمام المحكمة ضد الممارسات الإسرائيلية في إطار الجرائم المرتكبة وفقاً للميثاق من قبل أفراد أو عيادات قانونية أو محامين أو منظمات حقوقية أو من قبل النقابة.
وأخيرا يجب العمل على إنفاذ نظام روما الأساسي في النظام القانوني الفلسطيني، من أجل تفعيل الملاحقة الجنائية لمرتكبي الجرائم الدولية أمام المحاكم الوطنية الفلسطينية؛ لتعزيز مبدأ التكامل بين القضاء الجنائي الدولي والوطني.
* هذه المادة هي بشكل أساسي ملخص للقاء بث مباشر مع د. معتز قفيشة، أستاذ القانون الدولي وممثل نقابة المحامين الفلسطينيين أمام المحكمة الجنائية الدولية. لا تعبر هذه المادة عن رأي القانون من أجل فلسطين، وإنما تلخص وقائع ما ورد في اللقاء.
** أعد الملخص -بكل شكر- أعضاء فريق البحث في منظمة القانون من أجل فلسطين. وبشكل خاص كل من: غدير أبو مدين، ناصر ثابت، وبشار سلوت.