إعداد: غدير أبو مدين
ل: القانون من أجل فلسطين
في الأول من شهر يناير عام 2015، أودعت فلسطين إعلان انضمامها إلى ميثاق روما الناظم للمحكمة الجنائية الدولية ، وقامت، إثر ذلك بإحالة الوضع في فلسطين إلى المدعية العامة للمحكمة من أجل التحقيق في الجرائم المعتقد بارتكابها في فلسطين ، ومن ضمنها جرائم الحرب، بدءا من تاريخ 13 يونيو 2014، أي منذ بدء الحرب إسرائيل على قطاع غزة صيف العام 2014.
إثر ذلك، قام مكتب المدعية العامة للمحكمة بفتح تحقيق أولي لفحص مدى توافر المعايير المطلوبة لممارسة المحكمة الجنائية الدولية لاختصاصها القضائي في الجرائم المعتقد بارتكابها في فلسطين، وفي 20 ديسمبر 2019، أي بعد انتظار طال قرابة 5 سنوات، أعلنت المدعية العامة للمحكمة انتهاء التحقيق الأولي، وخرجت بنتيجة أن المعايير المطلوبة متوافرة، ثم طلبت من قضاة المحكمة تحديد النطاق الجغرافي لفلسطين، والذي يمكن للمحكمة ممارسة اختصاصها على الجرائم فيه، وهو الطلب الذي من المنتظر أن يصدر قرار بشأنه خلال الأشهر القليلة القادمة.
على صعيد الأطراف المعنية، رحبت فلسطين بقرارا المدعية العامة، واعتبرته خطوة مهمة في مشوار محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وفي المقابل، اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أن هذا القرار يوم أسود للعدالة والحقيقة، واعتبر أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص في فلسطين، واعتبر أن قرار المدعية العامة قرار سياسي. أما دولياً، فقد تقدمت 7 دول، ضمنها ألمانيا، بمداخلات أمام الدائرة التمهيدية للمحكمة، لدفعها لإصدار قرار بعدم المضي قدما في التحقيق، كما قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإصدار أمر تنفيذي بفرض عقوبات على المدعية العامة للمحكمة، وموظفين آخرين، لموقفهم الداعم لفتح التحقيق فيما يتعلق بفلسطين.
يتساءل كثيرون، هل فعلاً يمكن أن تنجح الجنائية الدولية في مسار المحاكمة في فلسطين / إسرائيل ؟ وهل هناك حقا أمل لملاحقة الجرائم في فلسطين من خلال المحكمة؟
قد يداهم الكثيرين الشك في حقيقة نجاعة هذا التحقيق، حيث يتساءل كثيرون، هل فعلاً يمكن أن يكون هناك أمل لملاحقة الجرائم في فلسطين من خلال المحكمة الجنائية الدولية ؟ وهل يمكن حقا أن نشهد ملاحقة للمسؤولين عن ارتكاب الجرائم المتمثلة بقتل المدنيين وبناء المستوطنات والحصار والاعتقالات التعفسية والمحاكمات غير العادلة وغيرها من الجرائم الكثيرة التي تقع في فلسطين؟ هل نستطيع أن نعتبر هذا القرار هو خطوة جيدة باتجاه تحقيق العدالة وهل ستنجح المحكمة الجنائية الدولية في محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم؟
للإجابة على هذا التساؤل، سيكون من الجيد استحضار التجارب الأخرى، فهل نجح القضاء الدولي سابقاً في محاكمة مجرمي حرب؟ وهل تم تقديم أشخاص إلى العدالة الدولية بسبب أفعالهم المشينة وتم إنصاف الضحايا؟
قصص نجاح للقضاء الجنائي الدولي في محاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة:
أ. محكمة يوغسلافيا الدولية: تم إنشاء هذه المحكمة عام 1993 لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية ضد المدنيين، والتي تم ارتكابها خلال فترة التسعينات في منطقة البلقان. تعتبر هذه المحكمة أول محكمة لديها اختصاص لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب الخطيرة والتي قاموا بارتكابها ضد مواطنيهم داخل إقليم محدد.
قدم الادعاء العام لهذه المحكمة لائحة اتهام ضد 160 شخصا متورطا بارتكاب جرائم دولية خطيرة في إقليم يوغسلافيا السابقة. تم الحكم على 90 شخصا منهم بعقوبات تراوحت بين السجن مدى الحياة، السجن من 5 سنوات إلى 46 سنة. هناك 59 شخص من هؤلاء أتموا فترة العقوبة، و 9 أشخاص ماتوا خلال فترة السجن أو بعد انتهاء عقوبتهم. وهناك 3 أشخاص لا تزال محاكمتهم جارية. ولعل أكثر شخصيتين شهرة في هذه المحاكمة هما:
– (Radovan Karadžić)، حيث تم توجيه الاتهامات إليه بصفته المسؤول عن القوات التي ارتكبت المذابح ضد المدنيين، وتمثلت الاتهامات التي وجهت إليه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة جماعية، وجرائم تخالف العرف الدولي للحرب. تم إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه في التسعينات، إلا أنه ظل هارباً حتى تم اعتقاله عام 2008 في بلغراد. وفي شهر مارس 2019، تم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، بعد أن كانت عقوبته مسبقاً السجن 40 عاما.
– (Slobodan Milošević) والذي يعتبر أول رئيس دولة تتم محاكمته أمام محكمة جنائية دولية على الجرائم التي تم ارتكابها خلال فترة رئاسته. مات قبل 4 شهور من إصدار الحكم بحقه، وكان هناك الكثير من الشكوك حول سبب وفاته، الكثير من التقارير قالت إنه انتحر عبر شربه سُماً، ولكن المتحدث الرسمي باسم المحكمة أوضح أنه مات لأسباب طبيعية نظراً لظروف صحته السيئة.
ب. محكمة راوندا: تم إنشاء هذه المحكمة عبر قرار رقم (995) الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية التي تم ارتكابها في راوندا خلال الحرب الأهلية الرواندية. وتنبع أهمية محكمة راوندا من خلال طريقة تعاملها مع جريمة الإبادة الجماعية، حيث أنها أنشأت سوابق قضائية عديدة تتعلق بمحاكمة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية.
لقطات من محاكمة المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية في رواندا – هل تشهد فلسطين مثلها؟
أدانت المحكمة 93 متهما، منهم رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، وقائد الجيش، وحكمت بعقوبات نهائية على 61 متهما. عام 2015 أصدرت المحكمة قرارها الأخير الذي حكمت فيه على وزيرة التنمية والمرأة (Pauline Nyiramasuhuko) وخمسة متهمين أخرين لمسؤوليتهم عن ارتكاب جريمة إبادة جماعية في راوندا.
ما هو دور المحكمة الجنائية الدولية؟
المحكمة الجنائية الدولية هي جهاز قضائي دولي يقوم بمحاسبة (الأفراد) المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية الخطيرة مثل جريمة الإبادة الجماعية، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان، وقد شُكلت المحكمة بناء على ميثاق روما عام 1998، وبدأت عملها رسمياً عام 2002.
تختص المحكمة بالجرائم التي يتم ارتكابها على أراضي الدول الأعضاء في ميثاق روما، أو الجرائم التي يرتكبها شخص يحمل جنسية هذه الدول، وعدد هذه الدول حتى الآن 124 دولة، بينها فلسطين (وكذلك فرنسا، بريطانيا، كندا، تونس، الأردن، وعدد كبير من الدول الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، إسرائيل ، روسيا، والصين، ليست أطرافا في المحكمة).
ويعتبر دور المحكمة الجنائية الدولية استكمال لعمل لمحاكم الجنائية الدولية السابقة التي تم تشكيلها خلال فترة التسعينات لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في يوغسلافيا السابقة، وروندا. لكن ما يميز المحكمة الجنائية الدولية أنها أول نظام قضائي دولي دائم يتم تأسيسه من أجل محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة، على عكس المحاكم الجنائية الدولية السابقة التي تم تأسيسها من أجل ممارسة اختصاصها بشكل مؤقت وحصري في إقليم معين أو جرائم محددة. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن المحكمة الجنائية هي هيئة دولية مستقلة، ولا تتبع للأمم المتحدة.
الجنائية الدولية وفلسطين، تحديات لا تخفى وآفاقٌ بتحقيق العدالة للضحايا
لا تخفى على المتابع للمحاكم الجنائية الدولية المعيقات والتحديات التي واجهتها وتواجهها. تعتمد المحكمة الجنائية الدولية في عملها على تعاون الدول الأطراف في ميثاق روما، وذلك يتمثل باستجابة الدول الأطراف لمذاكرات الاعتقال التي تصدرها المحكمة بحق مرتكبي الجرائم وتسليمهم للمحكمة، حيث لا يوجد هناك “شرطة دولية” تستطيع الدخول إلى الدول عنوة والتحقيق مع المطلوبين أو اعتقالهم. إضافة لذلك، فإن تقاعس الدول الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عن التوقيع على ميثاق روما، كما ذكرنا آنفا، يؤثر بلا شك على قوة إنفاذ قرارات المحكمة، حيث تتمتع هذه الدول بتأثير كبير على الساحة الدولية، فضلا عن أن القضاء الدولي يحتاج عادة إلى سنوات طويلة ليصل إلى أحكام، كما ظهر لدينا في المحاكم الجنائية السابقة، ولكن المهم، أن مسؤولي ومرتبكي الجرائم تمت محاسبتهم في النهاية.
ومما لا شك فيه، أن سياق قضية فلسطين في المحكمة يواجه تحديات أكبر من أي قضية أخرى ربما، سواء بسبب وضع فلسطين من حيث أن هناك عددا من دول العالم لا تعترف بها كدولة، بما في ذلك الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية، إضافة إلى المحاولات الأمريكية غير المسبوقة لثني المحكمة عن التقدم في التحقيق عبر فرض عقوبات على رموز بعض العاملين في المحكمة.
مما لا شك فيه، أن سياق قضية فلسطين في المحكمة يواجه تحديات أكبر من أي قضية أخرى ربما
لكن ذلك عينه يمثل نقطة قوة المحكمة، من الناحية الأخرى، فعدم تبعية المحكمة للأمم المتحدة، وعملها كمؤسسة قضائية مستقلة، يجعلها بعيدة نسبياً على التأثيرات السياسية، وعن منظومة الفيتو التي تقيد عمل مجلس الأمن عادة، والتي تسببت في العديد من الحالات في استمرار تدهور أوضاع المدنيين، كما حصل ويحصل في سوريا واليمن وليبيا وغيرها. وقد بدأنا نرى خطوات مهمة في هذا السياق، كإعلان المدعية العامة أن مكتب الادعاء العام وجد أسبابا كافية ومعقولة لطلب الإذن بفتح التحقيق في الجرائم المزعوم ارتكابها على إقليم دولة فلسطين، وذلك على الرغم من الضغط الكبير جدا الذي تعرضت له المحكمة، والذي دفع المدعية العامة إلى الخروج بتصريح تؤكد فيه أن عملها في قضية فلسطين مبني على معايير الحيادة والموضوعية.
وفي حال قررت الدائرة التمهيدية في قرارها المنتظر اعتبار المحكمة مختصة للتحقيق في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك القدس الشرقية، فإن ذلك يعني على المدى الأبعد أن كل جرائم الحرب التي اقترفت على مدار السنوات الماضية سوف يتم التحقيق بها، وحين إصدار المحكمة مذكرات اعتقال بحق مجرمي الحرب، سوف يكون هناك التزام على 124 دولة، وهي الدول الأطراف في المحكمة، أن تقوم بتسليم المطلوبين إليها، مهما بلغت منزلتهم القيادية، وهو أمر بالتأكيد سوف يمثل تقييدا كبيرا وزلزالا سياسيا وقضائيا لمصلحة الضحايا سوف يؤثر بشكل كبير على حركة القادة الذي أمروا بارتكاب تلك الجرائم، بما فيها الاستيطان والقتل الواسع والعشوائي للمدنيين، كما سبق بيانه.
وهنا نلاحظ أن إسرائيل ، شرعت فعليا بإعداد قائمة بأسماء المسؤولين لديها الذين يمكن أن يقعوا تحت خطر الاعتقال في حال استكملت المحكمة التحقيق، كما ألغى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “إيهود أولمرت” زيارته لسويسرا خشية من تعرضه للاعتقال على خلفية اتهامه بارتكاب جرائم حرب.
خاتمة
قد تأخذ المحكمة الجنائية الدولية سنوات طويلة لمحاسبة مرتبكي الجرائم الدولية الخطيرة. ولكن إدراكنا لطبيعة عمل المحكمة كجهاز قضائي دولي وطبيعة سير إجراءات القضايا المنظورة أمام المحكمة يساعدنا في فهم أهمية قرار المدعية العامة بالمضي في التحقيق. ومع معرفتنا لنجاحات المحاكم الدولية السابقة في محاسبة واعتقال مسؤولي ومرتكبي الجرائم الدولية، يجعلنا ذلك نؤمن بفرصة الجواب بنعم على سؤال إمكانية نجاح المحكمة الجنائية الدولية في فلسطين ، وبالتالي الوصول لمحاسبة مرتكبي الجرائم في فلسطين. وحتى ولو تهرب المسؤولون من مذاكرات الاعتقال وتخفّوا، تبقى حقيقة إصدار مذكرات اعتقال بحقهم تقيد حركة سفرهم إلى الدول الأطراف في ميثاق روما، والتي تشمل معظم الدول الأوروبية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، أمرا وزلزالا غير مسبوق. علينا في الختام أن نسأل أنفسنا، إذا لم تكن المحاكمة الجارية حاليا أمام المحكمة الجنائية الدولية بخصوص فلسطين بهذه الدرجة من الحساسية والجدية، فلماذا تلقى كل هذه المعارضة والهجوم والعقوبات؟!
—
- غدير أبو مدين : باحثة في منظمة القانون من أجل فلسطين. تحمل درجة البكالوريوس في القانون ودرجة الماجستير في حقوق الإنسان والديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، تحضر غدير أبو مدين لنيل ماجستير آخر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.