إطلاق الصواريخ ومسؤولية الفصائل الفلسطينية المسلحة أمام المحكمة الجنائية الدولية في ظل مبدأ منع الهجمات العشوائية
إعداد: إيمان بعيرات
تحرير: هبة بعيرات
* لتحميل الورقة بصيغة pdf، انقر هنا (9 صفحات)
* كُتب هذا المقال كأول مقال يُنشر ضمن سلسلة مقالات حول مسؤولية الفصائل الفلسطينية المسلحة أمام المحكمة الجنائية الدولية، ضمن دعوة الاستكتاب التي كانت أطلقتها القانون من أجل فلسطين بهذا الخصوص.
مقدمة
أصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بعد القرار الذي أصدره قضاة الدائرة التمهيدية للمحكمة بالأغلبية في 5 فبراير/شباط 2021، والذي قضى بأن المحكمة لها ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو القرار الذي عارضته إسرائيل وبعض حلفائها الغربيين.[1]
وكانت بنسودا ذكرت أن “هناك أساساً معقولاً” لأن تكون الأراضي الفلسطينية قد شهدت جرائم حرب من الأطراف التي شاركت في حرب غزة عام 2014، أي الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها حركة حماس. وأثناء الحرب الأخيرة على غزة في مايو 2021، حذرت المدعية العامة للمحكمة “جميع الأطراف” من التصعيد، وشددت على أن يكونوا حريصين على تجنب القيام بأفعال تمثل جرائم حرب.
وبالتالي، يتناول هذا المقال مدى مسؤولية الفصائل الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية في ظل مبدأ منع الهجمات العشوائية، ومدى إمكانية اعتبار أن أفعال الفصائل في هذا الخصوص تعد جرائم حرب.
حظر الهجمات العشوائية
يقوم القانون الدولي الإنساني على مجموعة من المبادئ التي تسعى لتجنيب المدنيين ويلات الحروب، ومنها مبدأ منع الهجمات العشوائية، حيث يحظر القانون الإنساني الدولي الهجمات التي تتصف بالعشوائية والبعد عن الدقة لما قد ينتج عنها من خسائر بين المدنيين وممتلكاتهم، ويرتبط هذا المبدأ بجوهر القانون الدولي الإنساني، من خلال سلسلة أخرى من المواد المتعلقة أساساً بحصانة المدنيين، حيث أكدت المواد (47،27) من اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين من جهة وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية من جهة أخرى، بحيث لا يمكن مهاجمة الأشخاص المدنيين وممتلكاتهم بشكل متعمد أو بصورة عشوائية. وأكد البروتوكول الملحق الأول لاتفاقيات جنيف في مادته 51 على حصانة المدنيين وأعيانهم من الهجمات العسكرية، ونصت الفقرة الرابعة منه بشكل مباشر على تجريم الهجمات العشوائية. كما ظهر حظر الهجمات العشوائية بوضوح في القاعدة (11) من قواعد القانون الدولي العرفي[2] واجب التطبيق من قبل كافة الدول والفاعلين. كما أقرت لائحة لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية لعام 1907 بموجب المادة (22) بأنه “ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو”.
تعريف وتفسير مبدأ منع الهجمات العشوائية
عرف البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 والخاص بالمنازعات المسلحة الدولية في الفقرة الرابعة من المادة 51 الهجمات العشوائية بإنها تلك التي:
أ) تلك التي لا توجه إلى هدف عسكري محدد،
ب) أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن أن توجه إلى هدف عسكري محدد،
ج) أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها على النحو الذي يتطلبه هذا اللحق “البروتوكول”، ومن ثم فإن من شأنها أن تصيب، في كل حالة كهذه، الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية دون تمييز.
كما عددت الفقرة 5 من المادة 51 المذكورة أمثلة لما يمكن أن يشكل هجوماً عشوائياً ومنها:
أ) الهجوم قصفاً بالقنابل، أياً كانت الطرق والوسائل، الذي يعالج عدداً من الأهداف العسكرية الواضحة التباعد والتميز بعضها عن البعض الآخر والواقعة في مدينة أو بلدة أو قرية أو منطقة أخرى تضم تركزاً من المدنيين أو الأعيان المدنية، على أنها هدف عسكري واحد،
ب) والهجوم الذي يمكن أن يتوقع منه أن يسبب خسارة في أرواح المدنيين أو إصابة بهم أو أضراراً بالأعيان المدنية، أو أن يحدث خلطاً من هذه الخسائر والأضرار، يفرط في تجاوز ما ينتظر أن يسفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة.
وهكذا، يمكن القول إن المادة 51 بفقرتيها 4 و5 تطرح نوعين من الهجوم العشوائي: الأول ينطوي على الفشل في تحديد هدف عسكري محدد لاستهدافه، والثاني ينطوي على استخدام أسلحة لا يمكن التحكم في آثارها بعد إطلاقها، بسبب أسلوب أو وسيلة الاستخدام، مثل أنواع معينة من الذخائر العنقودية أو الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية.[3]
وقد علقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القاعدة العرفية رقم 12 على المادة 51 بكونها تستند على الحجة المنطقية في أن أساليب الحرب التي لا يمكن أن تقتصر آثارها على النحو الذي يتطلبه القانون الإنساني الدولي ينبغي أن تحظر.
هل تعتبر الصواريخ غير الموجهة المطلقة من قطاع غزة خرقاً لهذا المبدأ؟
هذا السؤال بحاجة لفحص مدى انطباق شروط ومحددات الهجمات العشوائية المذكورة في المادة 51 (3) من البروتوكول الأول على الهجمات الصاروخية التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية اتجاه المدن والتجمعات الإسرائيلية. وبالنظر إلى الشروط المذكورة وأمثلتها المقترحة، نجد أن اثنين على الأقل من المحددات قد انطبقت على الهجمات الصاروخية الفلسطينية في الحروب السابقة، وخاصة حرب 2014، فهي تستخدم أنواعا من المقذوفات والصواريخ التي يصعب أن توجه توجيهاً دقيقاً نظرا لبدائيتها، كما أن أثر بعض منها يصعب أن يقتصر على أهداف عسكرية، كالصواريخ التي تطلق باتجاه أهداف عسكرية إسرائيلية قريبة من أماكن تجمع المدنيين.
وكان التقرير الصادر عن لجنة غولدستون -وهي لجنة تقصي حقائق شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وترأسها القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون، من أجل التحقيق في دعاوى ارتكاب جرائم حرب أثناء العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة 2009-2008- إلى كون قذف الفصائل الفلسطينية للبلدات الإسرائيلية بالصواريخ تشكل جريمة حرب. ورغم أن الفترة الزمنية التي يتعامل معها التقرير لا تدخل ضمن الاختصاص الزمني للمحكمة الجنائية الدولية على الوضع في فلسطين، والتي تبدأ من 13 يونيو 2014، إلا أنه يمكن الاسترشاد بالمحاججة القانونية التي وردت فيه حول الصواريخ والقذائف التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية المسلحة في القطاع نحو تجمعات ومدن إسرائيلية.
وقد أوضح التقرير أن الصواريخ وقذائف الهاون التي أطلقتها الفصائل باتجاه جنوب إسرائيل بشكل رئيسي إضافة إلى مناطق إسرائيلية أخرى تشكل في معظمها هجمات عشوائية، بحيث أن معظمها فشل في إصابة أهداف عسكرية مباشرة، وأن تلك التي استهدفت مناطق بلا أهداف عسكرية وأصابت مدنيين إسرائيليين تقع ضمن نطاق القتل العمد وبالتالي تعتبر جرائم حرب. وخلص التقرير إلى أن استهداف المدنيين والأعيان المدنية بهجمات عشوائية غير قادرة على الإضرار بالأصول العسكرية الإسرائيلية يقع ضمن نطاق جرائم الحرب، وأن الصواريخ الفلسطينية ونظراً لمحدودية الأضرار الناجمة عنها تهدف إلى نشر الرعب وتشكل أعمالاً انتقامية، مما يشكل انتهاكات إضافية للقانون الدولي الإنساني، حتى لو لم توقع أضراراً مادية وضحايا بين المدنيين.[4]
وفي التقرير الأممي الخاص بلجنة تقصي الحقائق المشكلة من مجلس حقوق الإنسان للتحقيق بانتهاكات القانون الإنساني الدولي في الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، والتي، بطبيعة الحال، تدخل في اختصاص المحكمة، ذكر التقرير أن معظم المقذوفات والصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية أثناء الحرب باتجاه البلدات والمناطق الإسرائيلية تفتقر لأنظمة تصويب وتحديد دقيق للأهداف، وتقع بالتالي ضمن نطاق الهجمات العشوائية المحرمة في القانون الدولي الإنساني. واللافت هنا أن التقرير نفى العلاقة بين عدم القدرة العسكرية للفصائل على بناء أسلحة متقدمة وذات أنظمة تحكم عالية ودقيقة وبين تحريم الهجمات العشوائية.[5] مشيراً إلى أن هذه الهجمات تشكل جرائم حرب حتى في ظل هذه الظروف، وأن بعض المحاكم الدولية قد اعتبرتها من قبيل الهجوم المتعمد على المدنيين. واعتبر التقرير أن هذه الهجمات إنما تهدف إلى إثارة الرعب في مخالفة للمادة 51 الفقرة 2 من البروتوكول الأول.
لفت التقرير إلى المرات القليلة التي أصدرت فيها الفصائل المسلحة إنذاراً قبل إطلاق الصواريخ في حرب عام 2014 معتبراً أن هذه الإنذارات على قلتها تماشت مع بعض شروط الإنذار الفعال
كما لفت التقرير إلى المرات القليلة التي أصدرت فيها الفصائل المسلحة إنذاراً قبل إطلاق الصواريخ في حرب عام 2014 معتبراً أن هذه الإنذارات على قلتها تماشت مع بعض شروط الإنذار الفعال المنصوص عليه في المادة 57 الفقرة 3 من البرتوكول الإضافي الأول، وبخاصة الشرط المتعلق بإمكانية التصرف وفقاً للإنذار وتطبيقه، بينما حام شك حول انطباق الشرط المتعلق بوصول التحذير بشكل جيد للجمهور المستهدف ليكون فعالاً وفقاً للقانون الدولي، وقد اعتبر التقرير أن البث في وسائل الإعلام ليس واضحاً إذا ما كان كافياً في تلك الفترة لتحذير الجمهور الإسرائيلي قبل إطلاق الصواريخ وليس واضحاً من الناحية المقابلة ما هي الوسيلة المتاحة والأفضل حينها.[6]
ولعل من الجدير بالإشارة هنا، أن الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري التابع لحركة حماس، كان يخرج بين فينة وأخرى للتحذير من قصف بعض المناطق قبل القيام بقصفها، وقد ظهر هذا بوضوح أكبر وكثافة أعلى خلال حرب أيار 2021 الإسرائيلية على غزة، فيما يبدو أخذا للعبرة من حرب 2014، وكانت تلك التصريحات تبث عبر شبكة الانترنت ويتم نقلها على شبكات تلفازية عالمية، وانطوت على تهديدات واضحة للمدن الإسرائيلية بتحديد مكان وساعة الهجوم، وقد شارك عدد من الإسرائيليين على وسائل التواصل الاجتماعي أنهم يعتمدون على هذه التصريحات ويتابعونها لمعرفة استمرار القصف أو توقفه، مما يعني أن لجان التحقيق قد تخلص إلى كون هذه التحذيرات فعالة بموجب القانون الدولي الإنساني والمادة 57 (3) من البروتوكول الأول الملحق لاتفاقيات جينيف 1977، وإن كان قد يؤخذ عليها أنها باللغة العربية، وليست العبرية، التي هي لغة أغلب السكان في إسرائيل.
الصواريخ الفلسطينية، الهجمات العشوائية، والمسؤولية أمام المحكمة الجنائية الدولية
يتضمن القانون الدولي الإنساني مبدأ عاماً وثيق الصلة بمنع الهجمات العشوائية، حيث يقضي بوجوب بذل العناية المعقولة عند مهاجمة أهداف عسكرية حتى لا يصاب مدنيون بلا داع بسبب الإهمال. وعلى صعيد آخر يرقى الهجوم العشوائي في الممارسة إلى درجة الاعتداء على المدنيين عند خرقه لمبدأ آخر يعرف بمبدأ التناسب، حيث يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات العسكرية التي يتوقع أن تلحق أذى مفرطاً في صفوف المدنيين مقارنة بالفائدة العسكرية المتوقعة، ويعرف هذا ب”مبدأ التناسبية”.
ورغم أن فكرة عدم إلحاق أذى “مفرط” في ذاتها تقر بأن وقوع إصابات في صفوف المدنيين هو أمر قد لا يمكن تجنبه عند استهداف أهداف عسكرية مشروعة، ولكن غيابها يعني توفر قصد جرمي من نوع ما.
وكما بينّا سابقاً، فإن الهجمات العشوائية تم تجريمها بشكل واضح ومباشر في القانون الدولي الإنساني، إلا أن توصيفها والمسؤولية الناجمة عنها تختلف باختلاف نتائجها وأهدافها. حيث تعتبر الهجمات العشوائية التي لا تراعي مبدأ العناية المعقولة والتناسبية من قبيل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف وفقاً للمادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة، وجريمة حرب بموجب المادة 8 (ب) من ميثاق روما. والجدير ذكره هنا، أنه لا يشترط في الهجمات العشوائية أن تتسبب في أضرار مادية أو بشرية لتقع ضمن الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني وبالتالي تشكل جرائم حرب، فالهجمات التي يكون الهدف منها إثارة الرعب هي أيضاً تعد من قبيل الانتهاكات الجسيمة.
وهكذا، إلى أي حد يمكن اعتبار أفعال الفصائل المسلحة جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؟
في مذكرتها التي أعلنت فيها عن اقتناعها بوجود أساس معقول للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت في الأراضي الفلسطينية، قالت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية حينها، فاتو بنسودة، بأن هناك “أساس معقولا للاعتقاد” بأن أعضاء حماس والجماعات المسلحة الفلسطينية ارتكبوا جرائم حرب، ومن ذلك تعمد توجيه هجمات ضد المدنيين واستخدام أشخاص محميين كدروع بشرية وحرمان أشخاص من الحق في المحاكمة العادلة والتعذيب.
وهكذا، لم تذكر المدعية العامة القصف العشوائي ضمن التعداد الذي ذكرته في هذا السياق، لكنها أشارت إلى أن هذه هي فقط أمثلة على ما يمكن أن يتم التحقيق فيه، وأن التحقيق لن يكون محصورا بهذه الأمثلة.
وإذا ما أردنا فحص هذه المسألة بموجب ميثاق روما الناظم للمحكمة الجنائية الدولية، نجد أن المادة 8/2/ب من ميثاق روما، المتعلقة بجرائم الحرب، والتي تكرر التطرق إليها في التقارير الأممية السابقة 2009 و2014 كتوصيف لهجمات الفصائل، قد تضمنت حظرا لبعض الأفعال التي قد تكون ذات صلة بهجمات الفصائل العشوائية. ومن ذلك: القتل العمد، وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه، تعمد توجيه هجمات ضد مواقع مدنية، تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة، مهاجمة أو قصف المدن أو القرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافاً عسكرية بأية وسيلة كانت.
تنطوي هذه الجرائم على ركنين؛ الركن المادي للجريمة والركن المعنوي، ولا بد من توفر كليهما ليكتمل وصف الجريمة أمام المحكمة
وبالعموم، تنطوي هذه الجرائم، وغيرها من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الموضوعي، على ركنين؛ الركن المادي للجريمة والركن المعنوي، ولا بد من توفر كليهما ليكتمل وصف الجريمة أمام المحكمة.
وينطوي الركن المادي للجرائم المذكورة على هذه المحددات: أن يكون الشخص أو الأشخاص الذين تعرضوا للأذى ممن تشملهم بالحماية اتفاقية أو أكثر من اتفاقيات جنيف لعام 1949، وأن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت ذلك الوضع المحمي، وأن يصدر السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ويكون مقترناً به، وأن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت وجود نزاع مسلح.
وباختلاف التوصيفات سابقة الذكر لأنواع الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وقد تكون ذات صلة بأعمال الفصائل، يختلف الركن المادي. فعلى سبيل المثال، الهجمات العشوائية إذا أدت بالفعل لقتل مدنيين، وكان واضحا من تصريحات مسؤولي الفصائل المسلحة أو من الوقائع الميدانية أنهم أرادوا الوصول إلى هذا الهدف، فعند ذلك يدخل هذا الفعل ضمن جريمة القتل العمد، والتي تقتضي وجود ركن مادي إضافي وهو أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا واحدا أو أكثر. وهكذا.
وإلى جانب الجرائم المذكورة آنفا، حظرت الفقرة 20 من المادة المذكورة آنفا “استخدام أسلحة أو قذائف… تكون عشوائية بطبيعتها… بشرط أن تكون هذه الأسلحة والقذائف … موضع حظر شامل وأن تدرج في مرفق لهذا النظام الأساسي”، وهذا غير متوفر في حالة صواريخ الفصائل الفلسطينية.
ويلاحظ من الجرائم سابقة الذكر أنها تبدأ غالبا بكلمة “تعمد”، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن الركن الثاني للجرائم، وهو الركن المعنوي، والذي نصت عليه المادة 30 من ميثاق روما[7]، وبموجبها نجد أن هناك شرطين لتحقق الركن المعنوي: العلم والقصد، بمعنى علم الشخص بإمكانية توقع الحدث أو النتيجة في المسار العادي للأحداث، والقصد لإيقاع ذلك الحدث أو إيقاع نتيجته. ووفقاً لأركان الجرائم الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، يمكن أن يستدل على وجود القصد والعلم من الوقائع والظروف ذات الصلة.
وعليه، لفحص انطباق توصيفات جرائم الحرب السابقة وأركانها على أفعال الفصائل الفلسطينية المسلحة فيما يخص إطلاق الصواريخ العشوائية، سيتعين على المحكمة النظر في الركن المعنوي، ومدى توفره بشكل فعلي، كما سيتعين على المحكمة من ناحية أخرى فحص أعداد الضحايا وصفاتهم ونوعية الأضرار الواقعة عليهم أو على الممتلكات المدنية لتثبت الأركان المادية سابقة الذكر لهذه الجرائم.
وإلى جانب ذلك، ينبغي أن تتسم أفعال الفصائل آنفة الذكر ب معيار الجسامة، وهو معيار تأسيسي مهم لتحديد مقبولية القضية أمام المحكمة، وهو معيار حاسم لتحديد مسؤولية الفصائل الفلسطينية وإذا ما كانت هجماتها العشوائية قد وصلت معيار الجسامة الذي يؤهلها للعرض على المحكمة الجنائية الدولية.[8] فعلى سبيل الاسترشاد، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية تاديتش عام 1995 قد ذكرت أنه ومن أجل أن تخضع الجريمة للمحاكمة امامها “يجب أن يكون الانتهاك جسيما، أي يجب أن يشكل خرقا لقاعدة تحمي قيما هامة وأن يشمل عواقب للضحية”، وذكر ذلك بعبارات عامة في قضية كوبريسكيتش.[9]
ينبغي أن تتسم أفعال الفصائل ب معيار الجسامة، وهو معيار حاسم لتحديد مسؤولية الفصائل الفلسطينية وإذا ما كانت هجماتها العشوائية قد وصلت معيار الجسامة الذي يؤهلها للعرض على المحكمة الجنائية الدولية
وفي قضية أسطول مافي مرمرة الذي كان يحمل علم دولة جزر القمر، العضو في المحكمة الجنائية الدولية، والذي أبحر في مهمة إنسانية بهدف كسر الحصار الإسرائيلي على غزة في مايو/أيار 2010، تم اقتحام الأسطول من قبل الجنود الإسرائيليين في عرض البحر وقُتل 9 مدنيين وجُرح 55 آخرون. وعلى الرغم من أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية قالت في خلاصة تقريرها الذي أصدرته حول الواقعة بأنها وجدت بأن “هناك أساسًا معقولاً للاعتقاد بأن جرائم حرب ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية (…) ارتكبت على إحدى السفن”، ومع ذلك، أضافت المدعية العامة بأن القضية (القضايا) المحتملة التي قد تنشأ عن التحقيق في هذه الحادثة لن تكون “على درجة كافية من الجسامة” لتبرير المزيد من الإجراءات من قبل المحكمة، مشددة على أن المحكمة “تعطي الأولوية لجرائم الحرب المرتكبة على نطاق واسع أو وفقًا لخطة أو سياسة”.
وفيما يتعلق بجرائم الجنود البريطانيين في العراق، وجد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية حينها في تقرير له عام 2006 أن الجرائم المدعى بارتكابها حينها “لم تصل إلى عتبة الجسامة” بسبب قلة عدد الحالات، حيث ذكر المدعي العام أن عدد الضحايا المحتملين للجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة في هذه القضية هو – من 4 إلى 12 ضحية للقتل العمد وعدد محدود من ضحايا المعاملة اللاإنسانية-، وبناء على ذلك، تم إعلاق التحقيق.[10]
وهكذا، عند النظر في هجمات الفصائل الفلسطينية على التجمعات والمدن الإسرائيلية، نجد أنه في حرب 2014، وبحسب تقرير لجنة التحقيق الأممية، أطلقت الفصائل الفلسطينية أطلقت الجماعات المسلحة الفلسطينية 4881 صاروخا و1753 قذيفة هاون باتجاه إسرائيل، وكان عدد القتلى الإسرائيليين 70 قتيلاً، 6 منهم فقط من المدنيين الاسرائيليين، حيث أصابت معظم قذائف الهاون والصواريخ التي أُطلقت من غزة أراضٍ مفتوحة. وفي المقابل، تظهر القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية المسلحة في الحرب الإسرائيلية الأخيرة في أيار 2021 على غزة، متقدمة عنها في السنوات التي مضت. ووفقاً لتقرير لقناة البي بي سي، سقط 12 قتيلاً إسرائيلياً إثر هجمات الفصائل خلال الحرب المذكورة، لكن لم يتم بيان صفتهم المدنية من العسكرية، وأصيب وفقاً للتقرير 336 إسرائيلياً. وكانت حصيلة الصواريخ المطلقة وفقاً لبيان للجيش الإسرائيلي 4070 صاروخاً، اعترضت القبة الحديدية 90% منها.
الآن وفي ظل قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات التي حصلت في غزة وإسرائيل خلال الحرب الأخيرة، سيتوضح المشهد أكثر من ناحية نوع الخسائر وطبيعة الهجمات التي شنتها الفصائل الفلسطينية والتوصيف القانوني لها بشكل مفصل.
خاتمة
في ظل قيام الحرب على اللجوء للعنف والقوة، يقوم القانون الدولي الإنساني على إقامة علاقة تناسبية بين حماية الإنسان وحدود استخدام القوة. ولمبدأ التناسب أهمية كبيرة في هذا السياق، من أجل تقييم حجة الضرورة العسكرية عند تقييم شرعية استخدام القوة المسلحة. وفي الحرب بين اسرائيل وقطاع غزة، تملك الفصائل الفلسطينية تكنولوجيا وأسلحة بسيطة، تفتقر إلى قدرة عالية على الاستهداف، رغم التباين بين هذه القدرات في الحروب الأربعة التي مرت على القطاع أعوام 2009 و2012 و 2014 والحرب الأخيرة 2021.
وعلى الرغم من عدم صدور تقرير أممي في الحرب الأخيرة بعد، إلا أنه وفي ظل التقارير الأممية السابقة 2009، 2014 يمكن الاستخلاص أن أكثرية الهجمات الصاروخية للفصائل تقع في نطاق الهجمات العشوائية، بعدد قليل من الضحايا بين المدنيين، وتكتم إعلامي ورسمي إسرائيلي حول الأضرار المادية التي تسببت فيها هذه الهجمات، تبقى الصورة غير واضحة فيما يتعلق بوقوع جرائم حرب بتصنيفاتها المختلفة، بالطبع إلى جانب ضرورة إثبات العلم والقصد (الركن المعنوي) لدى الفصائل الفلسطينية. إلا أنه يبدو أن هذه الهجمات أقرب إلى جرائم الحرب، خاصة تلك التي تهدف إلى بث الذعر وتأتي نتائجها المادية محدودة.
قد تخلص اللجنة المشكلة حديثاً من مجلس حقوق الإنسان إلى خلاف ذلك مع تطور الترسانة العسكرية للفصائل المسلحة، وقد تخالف المحكمة الجنائية الدولية حتى هذه التقارير، وقد تصل هذه أو تلك إلى أن الهجمات لا تندرج ضمن الهجمات العشوائية، ولكن يبقى جوهر القانون الدولي الإنساني المتمثل بالمبدأ العام لوجوب بذل العناية المعقولة والممكنة عند مهاجمة أهداف عسكرية حتى لا يصاب مدنيون بلا داع بسبب الإهمال، إضافة إلى تضافر أعداد أخرى من المبادئ القانونية من تمييز وحصانة مدنيين من ناحية، وحق تقرير المصير والدفاع المسلح الشرعي من ناحية أخرى، ناهيك عن الظروف الواقعية لقطاع غزة وتفاصيل العمليات العسكرية للفصائل ومدى توفر “معيار الجسامة” الذي قد يلعب دوراً في تكييف الهجمات والتعامل معها.
وبالعموم، مما لا شك فيه أن هذه الوقائع تثير الحاجة الماسة إلى تطوير القانون الدولي الإنساني للتعامل مع حروب العصابات وحروب حركات التحرر، التي كان اعتُرف بها في العام 1977، في البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف كحروب شرعية تسري عليها اتفاقيات القانون الدولي الإنساني. إن الطلب من الفصائل الفلسطينية المسلحة أن لا تقوم باستخدام ترسانتها من الصواريخ يعني ببساطة أن تبقي مكتوفة الأيدي أمام قوة الطائرات الإسرائيلية التي تقوم بقصف قطاع غزة، بما في ذلك المدنيين، لعدم امتلاك تلك الفصائل للوسائل القتالية المتقدمة التي يمكن من خلالها توجيه مقاومتها بدقة. هل البديل إذن أن تقوم باستخدام الصواريخ العشوائية؟ بالتأكيد لا، فذلك قد يمثل جريمة حرب كما أسلفنا. بين هاتين المسألتين تظهر الحاجة لتطوير قواعد جديدة يمكنها التعامل مع أوضاع كهذه. العديد من التساؤلات ما زالت معلقة، لن يجيب عنها إلا بدء التحقيق الفعلي والتقدم في العملية القضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية.
_________________________
[1]ادانت إسرائيل قرار المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في الأراضي الفلسطينية على لسان بنيامين نتانياهو وقال بأن المحكمة اثبتت مرة أخرى بإنها هيئة سياسية وليست مؤسسة قضائية، وأن قرار المحكمة يقوض حق الانظمة الديمقراطية في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب، وأعربت الولايات المتحدة عن “قلقها العميق” حيال قرار المحكمة الجنائية الدولية، وصرح المتحدث باسم الخارجية الاميركية نيد برايس للصحافيين “نحن قلقون بشدة لمحاولات المحكمة الجنائية الدولية ممارسة اختصاصها على العسكريين الإسرائيليين. لقد تبنينا دائما موقفا مفاده أن اختصاص المحكمة يجب أن يشمل حصرا البلدان التي تقبله او (القضايا) التي يحيلها مجلس الأمن الدولي” إلى المحكمة.
[2] تم تدشين قاعدة بيانات القانون الدولي العرفي بواسطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في أغسطس من عام 2011، وقد تم وضعها لكي تستخدم كمرجع قانوني في الحروب الدولية وغير الدولية من قبل المحاكم والهيئات القضائية والمنظمات الدولية،
[3]انظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر. القانون الإنساني الدولي العرفي: المجلد 1: القواعد، القاعدة 12
[4] انظر تقرير لجنة كشف الحقائق الأممية المشكلة عام 2009. صفحة 365.
[5]انظر تقرير لجنة تقصي الحقائق المشكلة لعام 2014، صفحة 29.
[6] انظر التقرير 2014 الصفحة 28 عبر الرابط
https://www.ohchr.org/en/hrbodies/hrc/
coigazaconflict/pages/reportcoigaza.aspx
[7] تنص المادة 30 من ميثاق روما “1. ما لم ينص على غير ذلك، لا يسأل الشخص جنائياً عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ولا يكون عرضة للعقاب على هذه الجريمة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم. 2. لأغراض هذه المادة يتوافر القصد لدى الشخص عندما: أ) يقصد هذا الشخص، فيما يتعلق بسلوكه، ارتكاب هذا السلوك. ب) يقصد هذا الشخص، فيما يتعلق بالنتيجة، التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للأحداث. 3. لأغراض هذه المادة، تعني لفظة “العلم” أن يكون الشخص مدركاً أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث. وتفسَّر لفظتا “يعلم” أو “عن علم” تبعاً لذلك”.
[8] كما أشرنا، يتبين أن الضحايا بين الإسرائيليين محدود ومعظمه من العسكريين مما يثير تساؤلاً حول تحقق معيار الجسامة في الأضرار البشرية المباشرة، قد يختلف الوضع عند الحديث عن الأضرار المادية أو المعنوية التي لا نملك لها تصوراً واضحاً لغياب الرواية الإسرائيلية الرسمية عن الصورة في ظل رفضها التعاون مع لجان التحقيق الأممية والمحكمة الجنائية الدولية
[9]انظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر. القانون الإنساني الدولي العرفي: المجلد 2: القواعد، القاعدة 156
[10] عادت المحكمة في العام 2014 إلى فتح القضية من جديد إثر تقديم معلومات إضافية بالخصوص.
* لا تتحمل القانون من أجل فلسطين أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء المنظمة. تتعهد القانون من أجل فلسطين بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.