إعداد: هبة بعيرات * – الوضع القانوني ل ” حركة المقاطعة ” في الولايات المتحدة الأمريكية
ل: القانون من أجل فلسطين
وُلِدت حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل (بي دي أس) بموجب المبادئ الديمقراطية ومبدأ حرية التعبير، بحسب ما تقوله الحركة في أدبياتها، واستمدت شرعيتها من عدد من المبادئ القانونية الراسخة في القانون الدولي وأدواته المختلفة. وكانت فكرة المقاطعة نبعت ابتداءً من حقيقة اعتماد إسرائيل على الدعم الخارجي في تمويل واستدامة نظام الاستيطان والفصل العنصري الذي تقيمه على الأراضي الفلسطينية، فلجأت ما يزيد على 171 مؤسسة مجتمع مدني، كردّ فعل، إلى تأسيس ما يعرف بحركة المقاطعة الدولية بي دي أس في عام 2005، في محاولة لتضافر الجهود المدنية والفردية والمؤسساتية لمحاسبة إسرائيل خارج القنوات الدبلوماسية التي أثبتت فشلها لعقود طويلة في ردع إسرائيل عن جرائمها المخالفة لأعراف ومواثيق المجتمع الدولي.[1]
تقول حركة المقاطعة إن هدفها هو استخدام وسائل ضغط سلمية ضد إسرائيل، لحضها على الإيفاء بالتزاماتها الدولية في سبيل تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، حيث تتمثل أهداف الحركة الرسمية بثلاثة أهداف أساسية: إنهاء الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتفكيك الجدار، والاعتراف بالحقوق الأساسية للمواطنين العرب في إسرائيل على قدم المساواة مع مواطنيها اليهود، وأخيراً احترام وحماية وتعزيز حق العودة لللاجئين الفلسطينين كما ورد في نص قرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة.
ويمكن تصنيف المبادئ الدولية التي تمنح الحركة شرعية قانونية ضمن إطارين فضفاضين؛ أولهما يتطرق إلى تشكيل الحركة واستمراريتها، وثانيهما يعالج أهداف الحركة ومبادئها. حيث تستمد الحركة مشروعية تشكيلها وهيئتها واستمرارية نشاطها من مبادئ حرية التعبير والتنظيم والاحتجاج السلمي، وهي مبادئ منصوص عليها في كثير من المعاهدات الدولية العامة والمتخصصة، عدا عن تحولها إلى مبادئ عرفية لازمة التنفيذ بغض النظر عن موقف الدول من النصوص المكتوبة. وعادة ما يتم توثيق المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي تعد الولايات المتحدة طرفاً متعاقداً فيه، كأساس منظم لهذه الحقوق. وكانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قد رأت أن مبدأ حرية التعبير يعدّ الحجر الأساس في أي مجتمع ديمقراطي، الأمر الذي يشير إليه تضمين هذا المبدأ للاتفاقيات الإقليمية كالمعاهدات المؤسسة والمؤطرة لعمل المنظمات الأوروبية والأمريكية والإفريقية لحقوق الإنسان، إضافة طبعاً للتشريعات والدساتير الوطنية التي لا يكاد يخلو تشريع أو دستور وطني منها.
ويمكن القول أن الأهداف الثلاثة المذكورة آنفاً لحركة المقاطعة ترتكز على تلك القوانين الدولية؛ فمبادئ كالمساواة ومنع التمييز شكلت لب المعاهدات والأعراف الدولية الأولى، سواء كانت معاهدات عامة كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، أو في معاهدات متخصصة كالاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز، والاتفاقية الدولية لقمع ومعاقبة جريمة الفصل العنصري، ناهيك عن الشرعية المتفق عليها دولياً لمبادئ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وعدم مشروعية الاستيطان وعودة اللاجئين وتفكيك الجدار التي أقرتها الأذرع المختلفة للأمم المتحدة في قرارت صادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن وفتوى محكمة العدل الدولية.[2]
الموقف القانوني للولايات المتحدة من حركة المقاطعة العالمية بي دي أس
تمتلك الولايات المتحدة تاريخاً زاخراً بحركات المقاطعة الاقتصادية، بعضها تاريخي كحركة مقاطعة السود للاقتصاد الأبيض في الميسيسبي Mississippi في سيتينيات القرن الماضي، وبعضها الآخر معاصر كحركة مقاطعة الجمعية الوطنية للبنادق 2018. وقد لعبت هذه الحركات دوراً محورياً في محاربة العنصرية وإرساء الحقوق الأساسية في الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن هذه الحركات، خلافاً لحركة المقاطعة بي دي أس، كانت في معظمها محلية ولا تتجاوز أهدافها وأنشطتها الحدود الجغرافية للولايات المتحدة، وتخضع بالتالي لنظامها القانوني المحلي. فماذا عن عالمية حركة المقاطعة، وهل يستتبع تصنيفها ومجال أنشطتها التعامل معها بصورة مختلفة؟
يتبنى الدستور الأمريكي والتشريعات الفرعية المنبثقة عنه مبادئ مشابهة لمبادئ القانون الدولي، من حيث الحق في التعبير والديمقراطية وعدم التمييز، وهي مبادئ تشرعن عمل الحركة كما بينا سابقاً، إلا أن استخدام تلك المبادئ في السياق الأمريكي تم بشكل معاكس، بحيث استخدمت لتبرير تجريم الحركة وقمع مناصريها، عوضاً عن الإقرار بمشروعية مبادئها وأعمالها.
يمكن تقسيم الموقف القانوني الأمريكي من حركة المقاطعة إلى موقف فيدرالي وموقف محلي؛ فبينما لم تتجاوز القوانين الفيدرالية المجرِّمة للحركة عتبة المشاريع المطروحة، دون أن تتحول إلى قوانين نافذة، قامت العديد من الولايات المنفردة، أبرزها ولايات نيويورك، نيوجرسي، إلينويز، فلوريدا، وفرجينيا، بسن قوانين تجرّم الحركة فعلاً وتعد التعامل معها خرقاً للقانون.
غير أن ما قام به الكونجرس -رغم فشله بتبني قانون ملزم يجرم البي دي أس- هو أنه فعلياً سهّل ورغّب بتجريمها على المستوى المحلي والفردي للولايات؛ وذلك ما تم عبر طرح أعضاء نافذين في مجلس الشيوخ مشروع قانون لمنع مقاطعة إسرائيل، وهو قانون يسمح للولايات بسن قوانين خاصة تلزم المتعاقدين معها بتوقيع تعهّدات بعدم مقاطعة إسرائيل تحت طائلة فسخ العقد، إضافة إلى مشروع قانون آخر يجرّم حركة البي دي أس ويفرض غرامة بما لا يقل عن 250 ألف دولار ولا يزيد عن مليون لمن يتعامل معها من الشخصيات الاعتبارية التي تتعاقد مع الحكومة، أو حتى تتلقى مساعدات حكومية، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات.
نجم عن هذه المشاريع تبني 32 ولاية لقوانين مشابهة، تشترط مقاطعة الحركة كشرط مسبق لتوقيع العقود أو تلقي المساعدات الحكومية، كما حدث مع ضحايا إعصار هارفي في العام 2017.
وفي الواقع، ارتكزت قوانين مناهضة حركة المقاطعة على معيارين قانونيين أساسيين يقعان في إطار القوانين المحلية للولايات، وهما: مناهضة التمييز الديني والعرقي، ومعاداة السامية. كما تم تجنيد قوانين محلية وفيدرالية أخرى، كقانون السكن العادل، في بعض القضايا، كما حدث في قضية ايربنب الشهيرة (AirBnb)، وذلك بعد إعلان الشركة نيتها رفع أسماء المؤجرين الإسرائيليين في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية من قائمة عملائها، لمخالفتهم لنص المادة 49 من معاهدة جينيف الرابعة التي تجرم الاستيطان في الأراضي المحتلة. فقد اضطرت الشركة لإلغاء قرارها هذا بعد رفع عدة قضايا ودعوات مطاردة وتضييق تعرضت لها.
وقد تعرضت القوانين التي تجرّم الحركة لانتقادات حقوقية كثيرة، تبعها قيام الاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية برفع عدة قضايا تتحدى دستورية هذه القوانين وتعتبرها خرقاً سافراً لحق حرية التعبير المحمي تحت التعديل الدستوري الأول. حيث يحمي الدستور الأمريكي تحت تعديله الأول حرية التعبير بأشكالها، ولا يستثني من مظلة الحماية إلا أمثلة معدودة تعتبر تعدياً على حقوق الآخرين وتجاوزاً سافراً لحرية الفرد، منها خطاب الكراهية والتهديد بالعنف والخطاب الخادش للحياء ضمن محددات وشروط كثيرة تكاد تعتبر معها حرية التعبير شبه مطلقة. وقد درجت محكمة النقض العليا في أمريكا على استخدام الاختبار القانوني الأشد لفحص دستورية القوانين التي تحد من حرية التعبير، ويعرف هذا الاختبار “بالفحص المشددStrict Scrutiny”، وهو يتطلّب أن تقوم الحكومة، سواء الفيدرالية أو المحلية، بإثبات الضرورة القصوى لسن القانون الذي يضيّق على حرية التعبير، وينبغي أن تتمثل تلك الضرورة بحماية حق أساسي ومطلق لا يمكن حمايته إلا بتضييق حرية التعبير. وبغير ذلك، ترفض المحكمة ذلك التقييد وتعتبره مخالفاً للدستور وتأمر بفسخه.
ومما يسجل هنا أن محكمة النقض الأمريكية تعاملت مع قضايا لحركات المقاطعة الأخرى من قبل، وأقرت في قضية الجمعية الوطنية لتعزيز حقوق الملونين ((NAACP v. Claiborne Hardware 1982، والتي كانت تقود مقاطعة عامة استمرت عدة سنوات لاقتصاد البيض في ولاية الميسيسبي إبان ستينيات القرن الماضي في محاولة لتحصيل حقوق السود وإنهاء التمييز العرقي وقتها، أقرت المحكمة بوقوع هذه المقاطعة الاقتصادية تحت مظلة حرية التعبير المضمونة في التعديل الدستوري الأول، معتبرةً حق المقاطعة تعبيرا سياسيا يتفوق على التعبير الفردي في الحماية، لاستهدافه تشكيل الرأي العام وتغيير السياسات التمييزية العامة.
وهكذا، وتأسيساَ على ما سبق، فإنه ينبغي على حكومات الولايات التي سنت قوانين مجرِّمة لحركة المقاطعة إثبات وجود حق أساسي ومطلق لا يمكن حمايته إلا من خلال هذه التشريعات المضيِّقة على حق الأفراد والمؤسسات بحرية التعبير. وفي الواقع، استخدمت معظم تلك الولايات مناهضة التمييز العرقي والديني كأساس قانوني لتبرير تلك التشريعات، إذ يجرّم القانون الأمريكي أي تمييز أو كره أو عنف موجه ضد فرد أو جماعة بسبب العرق أو الأصل أو الدين أو الوطن.
والحقيقة أن منع التمييز كما تضمنته تشريعات فيدرالية ومحلية، أبرزها قانون الحقوق المدنية 1964، والذي يمنع المؤسسات الأمريكية من التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الأصل الوطني، يعدّ أساساً صلباً لسن قوانين تحد من حرية التعبير لو أمكن إثباتها في حالة حركة المقاطعة. غير أن هذا المعيار، في الواقع، لا ينطبق على الحركة، لاعتبارات عدة.
يتطلب إثبات التمييز في القانون الأمريكي إثبات مكوِّنين أساسيين للجريمة، هما النية التمييزية والأثر التمييزي. ولإثبات النية التمييزية يتوجب استخدام أحد دليلين: إما الدليل المباشر، عبر إثبات ممارسة الحركة للتمييز من خلال أدبياتها وتصريحاتها وأفعالها بشكل واضح ومباشر، وإما الدليل الموضوعي الذي يثبت التمييزية من خلال الملابسات والوقائع، وهو بخلاف الدليل المباشر؛ لا يعتمد على الواقعة بشكل واضح ومحدد، وإنما على الظروف التي تحيط بها، إلا أنه كاف بحد ذاته للإدانة مثله في ذلك مثل الدليل المباشر. ونظراً لكون حركة المقاطعة لا تستهدف أحداً بناء على انتماء عرقي أو وطني لدولة ما، ناهيك طبعاً عن عدم استهدافها لليهود كمنتمين إلى دين معين، وإنما يقوم استهدافها على أساس الاشتراك الفعال في مخالفة قواعد القانون الدولي وانتقاص حقوق الفلسطينيين، مما عنى على أرض الواقع أن بعض أهداف الحركة كانت مؤسسات وجِهات ليست إسرائيلية ولا يهودية حتى، ولكنها موّلت أو دعمت النظام الإسرائيلي للفصل العنصري في الأراضي المحتلة، وبالتالي، فإن الدليل المباشر يفشل في إثبات تمييزية الحركة. أما فيما يتعلق بالدليل الموضوعي، فإن استهداف سياسات دولة ما، لا يعد تمييزاً ضد مواطني هذه الدولة، ويختلف مطلقاً عن التمييز ضد الأفراد نتيجة حملهم لهوية دولة ما.
ومما يجدر ذكره هنا، بالنسبة للأثر التمييزي لنشاطات الحركة، أن المحاكم الأمريكية كانت قد فعّلت -لدى النظر في مدى مشروعية التمييز تحت نصوص قانون الحقوق المدنية 1964- مبدأ الضرورة، والذي يقضي بمشروعية الفعل الذي يخدم هدفاً مشروعاً في حدود اللازم، حيث يعد هذا المبدأ من الدفوع المباشرة للأثر غير المتوازن، كما جاء في نصوص القانون. ويعني هذا أن التمييز الواقع على التجمعات اليهودية في إسرائيل يأتي كأثر لا بد منه، ولا يمكن تجاوزه لعمل حركة المقاطعة، وهو ليس مقصوداً لذاته، وإنما كوسيلة ضغط سلمية لحث إسرائيل على الإيفاء بالتزاماتها الدولية.
أخيراً، وفي ظل ما يمكن أن نعتبره “ضعفاً” في حجة تجريم حركة المقاطعة استنادا إلى قوانين منع التمييز، اعتمدت الولايات-إضافة إلى الأسس القانونية السابقة- أساساً مشتركاً مع دول العالم الأخرى التي سعت لتجريم حركة المقاطعة مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما، وهو معاداة السامية (مع التنويه إلى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اعتبرت الحركة شرعية بالنسبة للقوانين الأوروبية). اكتسب هذا الأساس ديناميكية حيوية في النظام القانوني الأمريكي نتيجة توسيع التعريف القانوني لمعاداة السامية ليشمل معاداة الصهيونية، بما يُعرف بالدالات الثلاث “انتقاد أو شيطنة إسرائيل، نزع شرعية إسرائيل، وتطبيق معايير مزدوجة عليها”. وقد أدرجت وزارة الخارجية الأمريكية تعريفاً مشتركاً مع عدد من دول العالم يتضمن أمثلة تنحو بشكل واضح نحو تحصين إسرائيل من النقد تحت دعوى معاداة السامية.
وعلى الرغم من أن هذا التعريف لا يملك قوة قانونية إلزامية، إلا أنه يتم الاسترشاد به في نظر القضايا التي تنطوي على شبهة معاداة السامية. وبالتالي، يتحول الجدل الدائر حول الاختلاف البيِّن بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية إلى جدل سياسي سفسطائي لا يلقى آذاناً صاغية في الأروقة القانونية الأمريكية، بالرغم من انضمام مجموعات ومؤسسات يهودية مؤثرة لحركة المقاطعة، وتأكيد الحركة في مبادئها وإعلاناتها على حياديتها ورفضها للتمييز القائم على العرق والدين، واقتصار أهدافها على المشاركين المباشرين في انتهاك حقوق الفلسطينيين ومخالفة مبادئ القانون الدولي.
وهكذا، يبدو لنا مما سبق أن الولايات المتحدة سعت بجِدّ إلى تجريم حركة المقاطعة، ليس فقط عبر تجاهل التفسيرات المعتمدة لمبادئ القانون الدولي التي تحكم مشروعية حركة المقاطعة وحسب، وليس عبر تجاهل أنها هي ذاتها شرّعت حركات مقاطعة في السابق، بل إنها اتجهت نحو لي عنق مبادئها القانونية المحلية، وحوّلت ما كان يُعتَبر أساساً صلباً لحماية ودعم الحركة كمنع التمييز وحرية التعبير إلى أدوات سياسية تجرّم جهود الحركة وتضيّق على داعميها.
—
[1]ما هي حركة مقاطعة إسرائيل بي دي أس؟ https://bdsmovement.net/ar/what-is-bds
[2]أهم القرارات الأممية المتخذة في هذا المجال قرار 242 – مجلس الأمن، وقرار 194 – الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار 2234 – مجلس الأمن، وفتوى محكمة العدل الدولية حول قانونية جدار الفصل العنصري 2004
—
* هبة بعيرات هي عضو لجنة الخبراء في ملتقى القانونيين من أجل فلسطين التابع لمنظمة القانون من أجل فلسطين. وهي محامية مجازة في ولاية نيويورك، تحمل درجة الماجستير من كلية واشنطن للحقوق- الجامعة الأمريكية في القانون الدولي وحقوق الإنسان، وقد عملت كباحثة قانونية في عدد من مؤسسات المجتمع المدني في ولايتي نيويورك ونيوجرسي. أسست مدونة قانونية تابعة للمركز الفلسطيني الأمريكي في ولاية نيوجرسي، وحالياً ترأس موقع القدس جيروسالم التابع أيضاً للمركز الفلسطيني الأمريكي.