إعداد: ناصر ثابت*
تحرير: القانون من أجل فلسطين
في تصريح لافت لوزير العدل الفلسطيني محمد شلالدة بتاريخ 14/10/2020، قال بأن القضاء الفلسطيني سيبدأ خلال أيام بالنظر في قضايا الانتهاكات التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون بحق المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم، مؤكداً بأن العمل جارٍ على جمع الأدلة والإثباتات الجنائية لرفع أولى القضايا من أجل إدانة مجموعة من المستوطنين المعروفة أسماؤهم بارتكاب جرائم وانتهاكات بحق المواطنين الفلسطينيين في البلدة القديمة بالخليل، وبلدة بورين جنوب نابلس.
وأكد شلالدة على أن مجلس الوزراء الفلسطيني أصدر قراراً “بتشكيل فريق وطني لمساءلة و محاكمة المستوطنين الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم بحق الشعب الفلسطيني أمام المحاكم الفلسطينية، وذلك في أعقاب قرار التنصل من الاتفاقيات والتفاهمات الإسرائيلية والأمريكية، الذي أصدره الرئيس محمود عباس”.
في الواقع، يمثل هذا الموقف الفلسطيني -إذا ما تحول فعلياً إلى إجراء عملي- انعطافا كبير في المشهد الفلسطيني وعلاقته بالاحتلال. ذلك أن السلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها عام 1993 بموجب اتفاق أوسلو، لم تقم ب ” محاكمة الإسرائيليين ” في المحاكم الفلسطينية، ليس فقط لأن ذلك غير متصور أن تسمح به إسرائيل بما لديها من ترسانة عسكرية، ولكن لأن منظمة التحرير الفلسطينية وافقت، بموجب اتفاق أوسلو ذاته، على الامتناع عن محاكمة أي إسرائيلي.
وهكذا، يعد هذا الموقف هو الأول من نوعه منذ اتفاق أوسلو، حيث لم يسبق لأية جهة رسمية فلسطينية أن أعلنت عن توجه ل ” محاكمة الإسرائيليين أمام المحاكم الفلسطينية “، سوى في قرار قضائي فريد صدر بداية العام 2015[1]، حين قرر قاضي الدائرة الجزائية في محكمة صلح جنين “أحمد الأشقر“، ردا على طعن كان تقدم به أحد المتهمين من حملة الجنسية الإسرائيلية بعدم اختصاص المحاكم الفلسطينية في محاكمته، فرفض القاضي هذا الطعن، وقرر المضي بالدعوى طبقا للأصول القانونية، مؤكدا بأن “اتفاقية أوسلو حملت بذور فنائها بنفسها بحكم طبيعتها المؤقتة، وهذا ما يقود إلى القول إن سريان اتفاقية أوسلو قد انتهى منذ سنوات مضت”، بما يجعل السلطة صاحبة ولاية في التقاضي بخصوص أية جريمة تحصل على الأراضي الفلسطينية، حتى لو كان مقترفها إسرائيلياً.
غير أن هذا القرار لم يتحول إلى واقع عملي في ذلك الحين، حيث رفض مجلس القضاء الأعلى الفلسطيني هذا القرار، وقال في بيان صدر عنه حينها بأن قاضي الصلح ليس هو جهة القرار في مسألة نفاذ اتفاق ‘أوسلو’ من عدمها، “لأن هذا الشأن هو شأن سياسي تقرره القيادة الفلسطينية وليس أية جهة قضائية”.
فإلى أي مدى يمكن تصور تحول هذا التصريح اليوم إلى واقع عملي؟ وهل تملك فلسطين حقاً، من الناحية القانونية، محاكمة الإسرائيليين في المحاكم الفلسطينية ؟ أم أن هناك معيقات قانونية تحول دون ممارسة المحاكم الفلسطينية سلطتها القضائية على الإسرائيليين ؟
أولاً: المرتكزات القانونية التي اعتمد عليها وزير العدل الفلسطيني في تصريحه بمقاضاة الإسرائيليين
برر وزير العدل الفلسطيني في تصريحه الصحفي قدرة المحاكم الفلسطينية على محاكمة الإسرائيليين الذي يرتكبون جرائم بحق الفلسطينيين على مجموعة من المرتكزات، وهي كالتالي:
- دولانية فلسطين وسيادتها على أراضيها:
حيث اعتبر وزير العدل أن هذه الخطوة تأتي “تكريساً لمفهوم سيادة الدولة على الإقليم المحتل، واستكمالاً لقبول فلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، إضافة لتعزيز مفهوم الولاية القضائية على الإقليم الفلسطيني المحتل”.
- القانون الأساسي الفلسطيني:
فبموجب المادة 30 من القانون الأساسي الفلسطيني، فإن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، و”لكل فلسطيني حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي”. وعلى ذلك، يمنح القانون الأساسي الفلسطيني للمتضررين من انتهاك حقوقهم المكفولة لهم بموجب القوانين المحلية الفلسطينية التوجه إلى المحاكم الفلسطينية لإنصافهم.
- قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الفلسطيني:
حيث تتيح الاجراءات المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية في فلسطين، المطالبة بالمسؤولية المدنية التقصيرية، والمتعلقة بجبر الضرر والتعويض بالشق المدني. وتنص المادة 27 من القانون المذكور على أن المحاكم في فلسطين تختص بنظر الدعاوى “التي تقام على الأجنبي الذي له موطن أو محل إقامة في فلسطين”. وفي الواقع، ينطبق هذا التوصيف على المستوطنين الإسرائيليين، والذين يعيشون في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية. كما تنص المادة 28 على أن المحاكم الفلسطينية تختص أيضاً في الدعاوى التي تُرفع على الأجنبي، حتى لو لم يكن له محل إقامة في فلسطين، إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود في فلسطين. وينطبق هذا التوصيف على المسؤولين الإسرائيليين الذين لا يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية، ولكنهم على سبيل المثال مسؤولون عن إصدار أوامر الموافقة على مصادرة أراض فلسطينية أو هدم ممتلكات وبيوت فلسطينية.
- الاتفاقيات و المعاهدات الدولية:
لفت وزير العدل في تصريحه إلى أن القضاة الفلسطينيين عند البت في ملفات الضحايا لن يستندوا فقط للتشريعات الفلسطينية، وإنما للاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي انضمت لها فلسطين، والتي وقعت عليها إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال. ولفت الوزير في هذا السياق إلى المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة. وتوجب هذه المادة على الدول سن تشريعات وطنية في قوانينها، لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة أو جنسيتها (الاختصاص القضائي العالمي).
- مبدأ حجية الأحكام:
حيث يشير وزير العدل الفلسطيني إلى أن الأحكام الصادرة عن القضاء الفلسطيني ستكون في حال عدم تطبيقها واحترامها من قبل سلطات الاحتلال، حجة ودليلاً لتنفيذها أمام الدول التي يحمل المستوطنون جنسياتها، في ظل حمل معظم المستوطنين لجنسيات أخرى غير جنسية إسرائيل، من أجل تنفيذها عليهم في حال دخولهم أراضيها، اعتماداً على قواعد القانون الدولي الخاص، وقواعد التعاون الدولي في ملاحقة المجرمين.
- الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية:
لفت وزير العدل إلى أن أحكام المحاكم الفلسطينية سوف تدعم قضية فلسطين المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتي ينص نظامها التأسيس على مبدأ الاختصاص التكميلي للمحكمة، أي أن ضحايا الانتهاكات إذا استنفذوا كافة الإجراءات الوطنية الدستورية دون إنصاف حقوقهم، أو استحال التنفيذ، فيمكن لهم حين ذاك التوجه للمحكمة الجنائية الدولية. وبالتالي، فالأصل أن القضاء المحلي (الوطني) هو صاحب الاختصاص، وفي حال عدم رغبته أو عدم قدرته على المحاكمة، حينها يمكن اللجوء للجنائية الدولية.
ثانياً: الأطر القانونية لممارسة المحاكم الفلسطينية سلطتها القضائية على الإسرائيليين – الممكنات والمعيقات
إن الناظر إلى الواقع الفريد للحالة الفلسطينية المعقدة والمرهونة بمجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات التي تحدد سلوك السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار معين، إضافة إلى وجود الاحتلال وعدم توفر سيادة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية بشكل كامل، الأمر الذي جعل نظر المحاكم الفلسطينية في الجرائم المرتكبة من قبل إسرائيليين يواجه مجموعة من المعيقات التي يمكن أن نناقشها فيما يلي:
- الاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية (أوسلو وما تلاها):
غلّت الاتفاقيات الثنائية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل إمكانية القضاء الفلسطيني عن محاكمة الإسرائيليين، فقد نصت اتفاقية طابا 1995 في إطار مادتها (17/4/أ) على أن “تمتد الولاية القضائية الإقليمية للمجلس [السلطة] على جميع الأفراد ما عدا الإسرائيليين”. وهو ما يعني عدم وجود ولاية شخصية للمحاكم الفلسطينية على الإٍسرائيليين، ويشمل ذلك بالطبع سكان المستوطنات.
بالإضافة إلى ذلك، لن تستطيع المحاكم الفلسطينية النظر في الجرائم الواقعة في المنطقة “ج”، والتي تمثل 60% من أراضي الضفة الغربية، لأن نقل الولاية للسلطة على هذه المناطق كان يفترض، بموجب المادة 1 و 17 من اتفاقية طابا وما تلاها، أن يتم في مراحل تالية، وإلى أن يتم ذلك، “سوف تستمر إسرائيل في ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها التي لم يتم نقلها”.
وفي ضوء ذلك، لا يمكن تصور أن تقوم فلسطين بمحاكمة الإسرائيليين طالما كانت ملتزمة باتفاقية طابا والاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية الأخرى. فهل لم تعد السلطة ملتزمة بهذه الاتفاقيات؟
في 19 مايو/أيار المنصرم، صرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن فلسطين في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الاميركية والإسرائيلية بما فيها الأمنية. دفع هذا التصريح المحكمة الجنائية الدولية إلى طلب تفسير من فلسطين حوله. وفي 4 يونيو/حزيران 2020 قدم وزير الخارجية الفلسطيني مذكرة مفسرة بناءً على طلب المحكمة، وأوضحت المذكرة في فقرتها 13 ما ورد في تصريح الرئيس عباس، وأكدت أنه (إذا ما أقدمت إسرائيل على الضم، فإنها ستلغي أي آثار لاتفاقيات أوسلو وجميع الاتفاقات الأخرى المبرمة بينهما. وإن استمرار انتهاكات إسرائيل لهذه الاتفاقيات وخططها وإجراءات الضم المعلنة، يعفي منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين من أي التزام ناشئ عن هذه الاتفاقات، بما في ذلك الاتفاقات الأمنية).
وفي وقت لاحق، عبّر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية في جلسة رسمية لمجلس الوزراء بأنهم سيعملون على استكمال الخطط المتعلقة بقرار القيادة الفلسطينية لإيقاف العمل باتفاقيات أوسلو، كون اسرائيل اعلنت وبدأت بممارسة بعض اجراءات الضم لبعض الاراضي الفلسطينية. وفي بيان صحفي لوزارة الخارجية الفلسطينية، قالت بأن سلطات الاحتلال ماضية في تنفيذ قرار الضم بشكل تدريجي وتحت مسميات مختلفة، وأن مقولات تأجيل الضم زائفة. وفي تصريح آخر لرئيس الوزراء الفلسطيني، قال بأن السلطة تدرس التعامل مع كافة المناطق الفلسطينية على أنها مناطق (أ). وحتى في تصريح وزير العدل المذكور بخصوص البدء في ملاحقة المستوطنين، بين الوزير أن هذا القرار يأتي استناداً إلى قرار الرئيس عباس التنصل من الاتفاقيات.
وهكذا، يبدو من خلال هذه التصريحات المتعددة أن فلسطين لم تعد فعلياً تعتبر نفسها ملزمة باتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقيات، بما في ذلك اتفاقية طابا. لكن وفي ضوء المعاهدات الدولية، حتى يسري هذا الإنهاء ويرتب آثاره القانونية، فإن الطريق القانوني لذلك، بموجب نص المادة (65/1) من اتفاقية فينا لقانون للمعاهدات الدولية هو إخطار الطرف الآخر بذلك بشكل رسمي. وبينت المادة (67/1) من الاتفاقية أن (الإخطار المنصوص عليه في المادة 65 الفقرة (1) يجب أن يكون مكتوباً).
وبذلك، وحتى تكون فلسطين في حل من الالتزامات المترتبة عليها نتيجة اتفاقيات أوسلو، يجب أن تخطر إسرائيل كتابياً بأنها قد أوقفت العمل بالاتفاقيات المبرمة فيما بينهما، وهذا ما يبدو أنه لم يتم حتى الآن.
حتى تكون فلسطين في حل من الالتزامات المترتبة عليها نتيجة اتفاقيات أوسلو، يجب أن تخطر إسرائيل كتابياً بأنها قد أوقفت العمل بالاتفاقيات المبرمة فيما بينهما، وهذا ما يبدو أنه لم يتم حتى الآن
- القوانين الفلسطينية
كما أسلفنا ومن خلال ما صرح به وزير العدل، يمكن للفلسطيني أن يلجأ بموجب القوانين المحلية الفلسطينية إلى القضاء بخصوص أي جريمة وقعت في الأراضي الفلسطينية أو أي حق كان يتعلق بمال موجود في الأراضي الفلسطينية.
لكن ما ينبغي الالتفات له هنا هو أن تصريح وزير العدل وسياق حديثه كان بالإشارة إلى “المطالبة بالمسؤولية المدنية التقصيرية، والمتعلقة بجبر الضرر والتعويض بالشق المدني”، فيما لم يذكر ولم يشر إلى ما يتعلق بالمعاقبة على الجرائم بموجب قواعد القانون الجنائي الفلسطيني. ويبدو من تصريح وزير العدل، أن ما تفكر به فلسطين يتعلق بالقضايا المدنية وليس الجزائية، حيث اعتبر أنه “في القضايا الأشد خطورة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، يمكن أن يتم التوجه إلى الجنائية الدولية”.
لكن الواقع هو أن قواعد القانون الجنائي الفلسطيني تتيح أيضاً محاكمة الإسرائيليين على الجرائم التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية. فوفق نص المادة (163) من قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني، “يتعين الاختصاص بالمكان الذي وقعت فيه الجريمة، أو الذي يقيم فيه المتهم، أو الذي يقبض عليه فيه”.
غير أن قواعد قانون العقوبات سواءً المطبق في الضفة الغربية أو قطاع غزة تعاقب على الجرائم العادية التي تضمنتها تلك القوانين، ولكنها لا تتضمن نصوصا خاصة بالجرائم الجنائية الدولية، حيث أن فلسطين بعد توقيعها على نظام روما وجملة من الاتفاقات الدولية لم تقم بملائمة القوانين الفلسطينية مع القانون الدولي ونظام روما من خلال تعديل قانون العقوبات ليشتمل على الجرائم الأشد خطورة والمعاقبة عليها. وهو ما يتطلّب بالتالي من السلطة أن تقوم بهذا التعديل، أو أن تقوم بوضع قانون خاص بالمعاقبة على الجرائم الأشد خطورة كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وإلى حين توفر هكذا تعديل[2]، تبقى المحاكم الفلسطينية مختصة في حال ارتكاب شخص إسرائيلي لجريمة من الجرائم العادية التي يعاقب عليها قانون العقوبات المطبق في فلسطين (كجرائم القتل والإيذاء مثلا).
- قانون الاحتلال (القانون الدولي الإنساني):
وفق قواعد القانون الدولي الإنساني، والتي تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، يبقى للمحاكم الفلسطينية الولاية القضائية بشكل طبيعي على الجرائم المرتكبة في أراضيها بالرغم من وجود الاحتلال الإسرائيلي. فوفقاً لنص المادة (64) من اتفاقية جنيف الرابعة: “تواصل محاكم الأراضي المحتلة عملها فيما يتعلق بجميع المخالفات المنصوص عليها في هذه التشريعات”.
والاستثناء الوحيد على هذه القاعدة، بموجب المادة 64 نفسها إضافة إلى المادة 66، هو أنه يمكن للمحتل أن يخضع سكان الأراضي المحتلة لقوانين يفرضها عليهم وتكون لازمة لتمكينه من الوفاء بالتزاماته كقوة احتلال بموجب اتفاقية جنيف. وفي حال مخالفة تلك القوانين، يمكن محاكمة من خالفها أمام محاكم تشكلها دولة الاحتلال.
وهكذا، يبدو جليا أنه لا يوجد وفق قواعد القانون الدولي الإنساني ما يمنع المحاكم الفلسطينية من محاكمة الإسرائيليين الذين يقترفون انتهاكات بالمخالفة للقوانين الفلسطينية. إضافةً إلى ذلك، يبدو جليا أن الاحتلال لم يظهر من خلال ممارساته أي سلوك جدي اتجاه محاكمة مرتكبي الجرائم بحق الفلسطينيين من المستوطنين والإسرائيليين، وعلى حد تعبير منظمتي بتسيلم و يش دين: “إسرائيل غير معنية بالتحقيق في انتهاكات ارتكبت ضد الفلسطينيين”، الأمر الذي يجعل مرتكبي الجرائم من الإسرائيليين في وضع عدم مساءلة حقيقية من قبل القضاء الإسرائيلي.
لا يوجد وفق قواعد القانون الدولي الإنساني ما يمنع المحاكم الفلسطينية من محاكمة الإسرائيليين الذين يقترفون انتهاكات بالمخالفة للقوانين الفلسطينية
- المحكمة الجنائية الدولية
يبدو موقف المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية داعماً لفكرة ولاية فلسطين في محاكمة الإسرائيليين. ففي واقع الأمر، ولعدم قدرة فلسطين على محاكمة الإسرائيليين الذين يعتقد بارتكابهم جرائم حرب من الناحية العملية، قدمت أوراق اعتمادها للانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية عام 2014. وفي 22 مايو 2018، أحالت فلسطين الوضع في أراضيها إلى المحكمة. وفي ضوء ذلك، أعلنت المدعية العامة للمحكمة في 20 ديسمبر 2019 بأنها وجدت أساساً معقولاً للشروع في إجراء تحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، وقدمت طلب للدائرة التمهيدية من أجل البت في ولاية المحكمة على النطاق الإقليمي للأراضي الفلسطينية.
وما يهمنا هنا هو موقف المدعية العامة للمحكمة فيما يتعلق باتفاقيات أوسلو وما تلاها، وإلى أي مدى يمكن لتنازل فلسطين عن محاكمة الإسرائيليين بموجب تلك الاتفاقيات أن يمثل عائقا ومانعاً فعليا عن محاكمة الإسرائيليين. وفي هذا السياق، نجد أن المدعية العامة قد اعتبرت أنه لا يوجد شيء في اتفاقات أوسلو يمنع فلسطين من قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، أو ممارسة هذه الولاية من قبل المحكمة. وشددت المدعية العامة على أن الأرض الفلسطينية المحتلة يجب أن يكون لها سيادة (ويشمل ذلك السيادة من الناحية القضائية)، وهذه السيادة هي للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، حيث لا يمكن لإسرائيل ادعاء السيادة عليها، كسلطة احتلال. وعليه، خلصت المدعية العامة إلى أنه من الأفضل النظر إلى اتفاقات أوسلو على أنها تضمنت تفويضا للولاية القضائية من قبل فلسطين لإسرائيل فيما يتعلق بمحاكمة الإسرائيليين، ولكن ذلك لم يمثل ولا يمكن أن يمثل تنازلا عن تلك الولاية.
ويعني هذا، من وجهة نظرنا، واستنادا إلى موقف المدعية العامة للمحكمة، أن صاحب الاختصاص الأصيل بالمحاكمة في فلسطين هو المحاكم المحلية الفلسطينية، وأن تنازل فلسطين عن ذلك بموجب اتفاق أوسلو وما تلاه يمثل “تفويضا” للمحاكم الإسرائيلية في هذا المجال، ويمكن لفلسطين أن تسحب هذا التفويض متى شاءت، بصفتها صاحبة الاختصاص الأصيل.
خاتمة
على ضوء ما سبق، يمكن القول بأن المحاكم الفلسطينية لها الصلاحية القانونية ل ” محاكمة مرتكبي الجرائم من الإسرائيليين “، لكن ذلك يتطلّب ابتداءً من فلسطين أن تقوم بإخطار إسرائيل بوقف العمل بالاتفاقيات الثنائية المبرمة فيما بينهما بشكل كتابي، بحيث يزول التقييد الوارد في تلك الاتفاقيات على ممارسة فلسطين لسلطتها القضائية على الإسرائيليين بشكل رسمي. وبالإضافة إلى ذلك، ومن أجل أن تكون قادرة على محاكمة جرائم الحرب، ينبغي على فلسطين تعديل تشريعاتها الوطنية وسن قوانين خاصة بالجرائم الدولية.
وفي كل الأحوال، فإن عدم مقدرة فلسطين من الناحية الواقعية على إنفاذ الأحكام التي يمكن أن تصدر عن محاكمها، والتي قد تشمل أوامر باعتقال إسرائيليين أو وضع اليد على أملاك خاصة بهم أو تغريمهم، يبقي المحكمة الجنائية الدولية مختصة بنظر تلك الجرائم. بل إن عدم مقدرة فلسطين على ممارسة تلك الولاية القضائية على مرتكبي الجرائم التي تقع في نطاق إقليمها، لأسباب تتعلق بالاتفاقيات وبسبب نظام حكم الاحتلال الحربي وفي ظل عدم قيام إسرائيل بواجبها القانوني في المحاكمة عن تلك الجرائم التي يقترفها مواطنوها، بل وتبينها لتلك السياسات في كثير من الأحيان، كما في حالة الاستيطان، هو الذي دفع فلسطين إلى إحالة الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية وفقاً لعضويتها فيها، وهو الأساس القانوني الذي يمكن أن تستند إليه المحكمة في مضيها قدما في التحقيق، سنداً للمادة 17 من نظام روما الأساسي.
مصادر
[1] انظر: محكمة صلح جنين، دعوى جزاء رقم 885 لسنة 2014. تاريخ صدور الحكم: 11/1/2015.
[2] مما يمكن أن يُستأنس به هنا، هو قرار المحكمة الدستورية العليا في فلسطين (2017) بسمو الاتفاقيات الدولية على التشريع المحلي، وبأن دولة فلسطين ينبغي أن تعطي الاعتبار لقواعد القانون الدولي حتى لو لم يكن قد تم إدماجها في القوانين الداخلية. واستنادا على ذلك، يمكن لفلسطين أن تقوم بالمعاقبة على الجرائم المنصوص عليها في ميثاق روما حتى لو لم تقم بوضع قواعد قانونية خاصة في قانونها الداخلي لتنظيم ذلك.
—
* ناصر ثابت باحث قانوني في منظمة القانون من أجل فلسطين، حاصل على المركز الأول في مسابقة البحث العلمي في الجامعات الفلسطينية. يحمل ثابت درجة البكالوريوس في القانون، كتب العديد من الأوراق والمقالات القانونية في القانون الدولي.