مقال مترجم ll تصنيف المحكمة الجنائية الدولية للنزاعات المسلحة فيما يتعلّق بالحالة في دولة فلسطين
لغة المقال الأصلي: الإنجليزية.
عنوان المقال بالإنجليزية: The International Criminal Court’s Classification of Armed Conflicts in the Situation in Palestine
بقلم: عادل أحمد حق (Adil Ahmad Haque)، المحرر التنفيذي في Just Security، وأستاذ قانون – جامعة روتجرز.
المصدر الأصلي للمقال بالإنجليزية: هنا
ترجمته للعربية: وداد حسين
في الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية أوامر قبض بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت، والقائد العسكري لحماس محمد دياب إبراهيم المصري (المعروف أيضًا باسم “الضيف”)، بتهمة الضلوع في عدد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وتتضمن مزاعم جرائم الحرب ضد نتنياهو وجالانت استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وعدم منع القوات الإسرائيلية من مهاجمة المدنيين. وتشمل مزاعم جرائم الحرب ضد المصري إصدار أوامر القتل أو عدم منعه، ومهاجمة المدنيين والمعاملة القاسية والتعذيب واحتجاز الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية والاغتصاب والعنف الجنسي. وهذه اتهامات لا يُمكن أن توجد اتّهامات أكثر خطورة منها. وكما أكدت البيانات الصحفية للمحكمة، “يبدو أن سلوكا مُماثلا للسلوك الوارد في أوامر القبض لا يزال مستمراً”.
يتناول هذا المقال نقطة مُحدّدة ومُتخصّصة فيما يتعلق بجرائم الحرب المزعومة، ألا وهي تصنيف المحكمة للنزاعات المسلحة التي تدور في غزة وتحديدها للقانون المنطبق. وسأتطرّق ببضع كلمات إلى الجرائم ضد الإنسانية المزعومة في ختام مقالتي.
وبحسب الدائرة، فإن جرائم الحرب التي يُزعَم أن نتنياهو وجالانت ارتكباها وقعت في سياق نزاع مسلح دولي بين إسرائيل وفلسطين، في حين أن جرائم الحرب التي يُزعم ضلوع المصري فيها وقعت في سياق نزاع مسلح غير دولي بين إسرائيل وحماس. والتمييز بينهما مهم لأن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يمنح المحكمة اختصاصًا موضوعيًا فيما يتعلق بجريمة الحرب المُتمثلة في التجويع كسلاح للحرب فقط عندما تحدث في سياق نزاع مسلح دولي وتكون مرتبطة به. هذا ولم تُصادق فلسطين بعد على التعديل الذي يُوسّع اختصاص المحكمة ليشمل جريمة الحرب المُتمثلة في التجويع في النزاعات المسلحة غير الدولية. وتشمل جرائم الحرب الأخرى التي يقتصر نظام روما الأساسي عليها في النزاعات المسلحة الدولية؛ مهاجمة الأعيان المدنية وتكبيد الخسائر العرَضية في الأرواح والإصابات وإلحاق الأضرار بصورة مُفرطة (الهجمات غير المُتناسبة)؛ واستخدام الأشخاص المحميين كدروع. وعليه، يجدر بنا أن نتناول هذا الجانب من قرار الدائرة. ومن وجهة نظري، فإن نهج الدائرة واستنتاجها صحيحان في الأساس، ولكن يُمكِن تعزيزهما في بعض الجوانب.
منطق المحكمة الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
إن القرار الفعلي للمحكمة بإصدار مذكّرات الاعتقال غير متاح للعامة، إلا أن البيان الصحفي الصادر عن المحكمة يُلخّص تعليل المحكمة على النحو التالي:
وجدت الدائرة أسبابًا معقولة للاعتقاد بأنه خلال الفترة المعنية، كان القانون الدولي الإنساني المُتعلق بالنزاع المسلح الدولي بين إسرائيل وفلسطين مُنطبِقاً. ويعود ذلك إلى أنهما طرفان متعاقِدان ساميان في اتفاقيات جنيف لعام 1949 ولأن إسرائيل تحتل على الأقل أجزاءً من فلسطين. ووجدت الدائرة كذلك بأن القانون المتعلق بالنزاع المسلح غير الدولي يسري على الاقتتال بين إسرائيل وحماس. الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
وترى الدائرة أن السلوك المزعوم للسيد نتنياهو والسيد جالانت يتعلق بأنشطة الهيئات الحكومية الإسرائيلية والقوات المسلحة ضد السكان المدنيين في فلسطين، وبشكل أكثر تحديدًا المدنيين في غزة. وبالتالي، فإن الأمر يتعلق بالعلاقة بين طرفين في نزاع مسلح دولي، فضلاً عن العلاقة بين السلطة القائمة بالاحتلال والسكان في الأراضي المحتلة. ولهذه الأسباب، وفيما يرتبط بجرائم الحرب، ترى المحكمة أنه من المُناسِب إصدار أوامر الاعتقال وفقًا لقانون النزاع المسلح الدولي.
دعونا نُحلّل هذا المنطق. إسرائيل وفلسطين هما طرفان مُتعاقِدان ساميان في اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي انضمت إليها فلسطين في عام 2014. وبموجب المادة المُشترَكة الثانية، تنطبق اتفاقيات جنيف على “جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لأراضي أحد الأطراف السامية المُتعاقدة، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة”. وكما وجدت الدائرة، فإن “إسرائيل تحتل أجزاء من فلسطين على الأقل”. ويترتب على ذلك أن اتفاقيات جنيف تنطبق وتنظم العلاقات بين إسرائيل وفلسطين، وبين إسرائيل كسلطة قائمة بالاحتلال والسكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، بما في ذلك في غزة.
اتفاقيات جنيف تنطبق وتنظم العلاقات بين إسرائيل وفلسطين، وبين إسرائيل كسلطة قائمة بالاحتلال والسكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، بما في ذلك في غزة
وفي ذات الوقت، “يسري القانون المتعلق بالنزاع المسلح غير الدولي على القتال بين إسرائيل وحماس”. الجناح العسكري لحماس هو جماعة مسلحة منظمة تقاتل نيابةً عن حماس، وهي جهة فاعلة غير حكومية. وهي لا تُقاتِل نيابة عن دولة فلسطين، التي تخلّت عن الكفاح المسلح منذ فترة طويلة. وعليه، فإن العنف المسلح المُطوّل بين القوات المسلحة الإسرائيلية والجناح العسكري لحماس يُشكّل “صراعاً مسلحاً ليس له طابع دولي” بموجب المادة المشتركة 3 من اتفاقيات جنيف. وتعتبر الانتهاكات الجسيمة للمادة المشتركة 3 من اتفاقيات جنيف جرائم حرب بموجب المادة 8 (2) (ج) من نظام روما الأساسي، بما في ذلك العديد من جرائم الحرب الموجّهة إلى المصري.
والأمر الحاسم هنا هو أن المحكمة خلُصت إلى أن استخدام التجويع كان موجهاً “ضد السكان المدنيين في فلسطين، وبشكل أكثر تحديداً المدنيين في غزة”. وبناءً على هذا، فإن هذا السلوك “كان يتعلق بالعلاقة بين طرفين في نزاع مسلح دولي، فضلاً عن العلاقة بين السلطة القائمة بالاحتلال والسكان في الأراضي المحتلة”.
إن النهج الذي اعتمدته الدائرة معقول. فعندما تقاتل سلطة قائمة بالاحتلال جماعة مسلحة في أرض محتلة، فإن الكثير من سلوكها سوف يكون له حتماً بعض الصلة أو “الرابطة” مع مسألة الاحتلال والقتال. ولتحديد القانون الذي يسري على فعل معين، ينبغي أن يبدأ التحليل (ولكن لا ينتهي) بالنظر إلى ما إذا كان الفعل موجّهاً ضد الجماعة المسلحة الخاضعة لقانون النزاع المسلح غير الدولي، أو ضد السكان المدنيين المحميين بموجب قانون النزاع المسلح الدولي، أو كليهما. وهذا من شأنه أن يساعد في تحديد ما إذا كان السلوك المعني “وقع في سياق نزاع مسلح دولي أو نزاع مسلح غير دولي أو كليهما وكان مرتبطاً بهما”. ووفقاً لهذا النهج، فإن الهجمات التي تشنها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال تندرج بوضوح تحت قانون النزاع المسلح الدولي وتشكل جرائم حرب بموجب المادة 8(2)(ب) من نظام روما الأساسي.
وحسبما دفع توم دانينباوم، فإن استخدام التجويع كان موجهاً ضد سكان غزة ككل، الذين ما زالوا يُمثّلون سكاناً مدنيين تحت الاحتلال على الرغم من وجود مقاتلي حماس، وهو ما يشكل انتهاكاً خطيراً لقانون النزاعات المسلحة الدولية. وبالمقابل، كان استخدام التجويع موجّهاً ضد المدنيين ومقاتلي حماس على حدّ سواء، تماماً مثلما يُوجّه الهجوم العشوائي ضد المدنيين والأهداف العسكرية. وفي الحالة الأخيرة، فإن قانون النزاعات المسلحة الدولية من شأنه أن يحمي المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، في حين أن قانون النزاعات المسلحة غير الدولية من شأنه أن يرفع الحماية عن مُقاتلي حماس. وفي كلتا الحالتين، فإن استخدام التجويع ينتهك قانون النزاعات المسلحة الدولية بشكل خطير ويشكل جريمة حرب بموجب المادة 8(2)(ب) من نظام روما الأساسي.
ويحتجّ المدعي العامة للمحكمة الجنائية الدولية بأن التجويع استُخدم كأسلوب من أساليب الحرب “كوسيلة (أ) للقضاء على حماس؛ (ب) لضمان عودة الرهائن الذين اختطفتهم حماس؛ و(ج) لمعاقبة السكان المدنيين في غزة بشكل جماعي، الذين تم اعتبار أنهم تهديد لإسرائيل”. وكما أوضحنا أعلاه، فإن التجويع كوسيلة للقضاء على حماس موجّه إمّا ضد السكان المدنيين ككل، الذين يظلون مدنيين على الرغم من وجود المقاتلين، أو ضد كلّ من المدنيين والمقاتلين دون تمييز. والتجويع كوسيلة للضغط على حماس من أجل إطلاق سراح الرهائن موجه مباشرة ضد المدنيين، حيث يتم استخدامهم واستخدام معاناتهم عمداً كوسيلة لتحقيق هدف آخر. ومن الواضح أن التجويع كوسيلة لمعاقبة السكان المدنيين بشكل جماعي موجه ضد هؤلاء السكان المدنيين.
وفيما بعد، في نفس البيان الصحفي، تشير المحكمة إلى “التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني بضمان تزويد السكان المدنيين في غزة بالسلع التي يحتاجون إليها بشكل كاف”. ويبدو هذا وكأنه إشارة إلى المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تفرض على القوة المحتلة “واجب تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية”. ومن البديهي أنه إذا قامت قوة احتلال بتجويع المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، في انتهاك لقانون الاحتلال، فإن العلاقة بين التجويع والاحتلال تكون واضحة، ويحدث السلوك في سياق نزاع مسلح دولي ويكون مرتبطاً به.
تطبيقات القانون الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
صرّح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأن مكتبه “يُواصل تحقيقاته المستقلة والمُحايِدة في الحالة في دولة فلسطين مع التركيز على ذلك. وسنمضي قدماً في مسارات تحقيق إضافية في مناطق تدخل في اختصاص المحكمة، تشمل غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية”. ويُقدّم قرار الدائرة بعض الدلائل على جرائم الحرب الأخرى التي قد يُحقق فيها المدعي العام.
وبناءً على منهجية الدائرة، فإن القتل المُتعمّد للمدنيين الفلسطينيين، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، والتدمير الواسع للممتلكات المدنية الذي لا تُبرّره الضرورة العسكرية قد يشكل جرائم حرب في نزاع مسلح دولي بموجب المادة 8(2)(أ) من نظام روما الأساسي. وعلى نحو مماثل، فإن مهاجمة الأعيان المدنية، بما في ذلك المباني المُخصصة للأغراض الدينية والتعليمية وكذلك المستشفيات، من شأنه أن يشكل جرائم حرب في نزاع مسلح دولي بموجب المادة 8(2)(ب) من نظام روما الأساسي. والأمر ذاته ينطبق على النقل المباشر أو غير المباشر للمدنيين الإسرائيليين إلى الأراضي المحتلة وكذلك ترحيل أو نقل المدنيين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة أو خارجها. والقائمة تطول. وكل هذه الأفعال مُوجّهة من قبل السلطة القائمة بالاحتلال ضد السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، وبالتالي تحدث في سياق نزاع مسلح دولي وترتبط به.
وعلى نحوٍ مماثل، فإن استخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية يشكل أيضاً جريمة حرب في نزاع مسلح دولي بموجب المادة 8(2)(ب)(23) من نظام روما الأساسي. وفي حين أن مثل هذا السلوك يهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق ميزة عسكرية ضد حماس، فإنه مُوجّه مباشرة ضد المدنيين الفلسطينيين الذين يتم استخدامهم قسراً كوسيلة لتحقيق غاية عسكرية. الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
وأخيراً، فإن توجيه هجوم ضد مقاتلي حماس ومرافقها مع العلم بأن الهجوم سيُلحِق ضرراً بالمدنيين الفلسطينيين وسيكون مُفرِطا بشكل واضح مقارنة بالميزة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة، من شأنه أيضاً أن يشكل جريمة حرب في نزاع مسلح دولي بموجب المادة 8 (2) (ب) (رابعا) من نظام روما الأساسي. من الصحيح القول أن توجيه مثل هذه الهجمات ينشئ صلة قوية مع النزاع المسلح غير الدولي بين إسرائيل وحماس، إلا أنه من الصحيح أيضا أن التأثير غير المُتناسب لمثل هذه الهجمات على المدنيين الفلسطينيين تحت الاحتلال يخلق رابطة قوية مع النزاع المسلّح الدولي بين إسرائيل وفلسطين، ومع العلاقة بين السلطة القائمة بالاحتلال والسكان المدنيين القابعين تحت الاحتلال. ومن وجهة نظري، ينطبق كلا الفرعين من القانون؛ حيث ينطبق قانون النزاع المسلح غير الدولي من حيث جعل مقاتلي حماس ومرافقها أهدافا مشروعة، في حين ينطبق قانون النزاع المسلح الدولي لحماية المدنيين الفلسطينيين من الضرر غير المُتناسب.
البدائل الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
أفادت لجنة الخبراء التي قدمت المشورة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في مايو/أيار أن قانون النزاع المسلح الدولي ينطبق على سلوك إسرائيل في غزة لثلاثة أسباب: أن فلسطين دولة، وأن النزاع المسلح الدولي ينشأ إذا استخدمت دولة القوة ضد جهة فاعلة من غير الدول على أراضي دولة أخرى دون موافقة هذه الأخيرة؛ وأن إسرائيل وفلسطين من الأطراف السامية المُتعاقِدة في اتفاقيات جنيف، وأن النزاع المسلح بين طرفين ساميّين متعاقِدين هو نزاع دولي بطبيعته؛ وأن إسرائيل هي القوة المحتلة في غزة، وأن قانون النزاع المسلح الدولي ينطبق في حالات الاحتلال العسكري. ويبدو أن الدائرة لا تعتمد على الأساس الأول، ربما بسبب تردّدها في إصدار حكم بشأن دولة فلسطين بموجب القانون الدولي العام ما لم يَكُن ذلك ضرورياً للغاية لحل القضايا القانونية المعروضة عليها.
فلسطين دولة، والنزاع المسلح الدولي ينشأ إذا استخدمت دولة القوة ضد جهة فاعلة من غير الدول على أراضي دولة أخرى دون موافقة هذه الأخيرة
وفي فتواها الأخيرة، وجدت محكمة العدل الدولية أن اتفاقية جنيف الرابعة تنطبق على سلوك إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة لسبب مختلف، ألا وهو أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية جاء نتيجة لصراع مسلح سابق بين الأطراف السامية المتعاقِدة ــ حرب عام 1967 بين إسرائيل والأردن ومصر (الفقرة 96). وليس من الواضح لماذا اتخذت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية نهجاً مختلفاً، ولكنني سأقدم تخميناً واحداً. فالمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف تنطبق على “النزاع المسلح ذي الطابع غير الدولي الذي يدور في إقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة”. ومن المُمكن أن تكون الدائرة قد ارتأت أن من المهم إثبات أن جرائم الحرب المُرتَكبة بالكامل داخل فلسطين تُشكّل انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف وتندرج تحت المادة 8(2)(ج) من نظام روما الأساسي.
الاعتراضات الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
يمنح نظام روما الأساسي المحكمة سلطة قضائية على فئتين من جرائم الحرب: الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف بموجب المادة 8(2)(أ)؛ والانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف المعمول بها في النزاعات المسلحة الدولية، بما في ذلك جرائم الحرب المتمثلة في التجويع ومهاجمة المدنيين، بموجب المادة 8(2)(ب). وفي حين أن استدلال الدائرة يُثبِت بوضوح اختصاص المحكمة على الجرائم المنصوص عليها في المادة 8(2)(أ)، قد يطعن البعض في اختصاص المحكمة بالنظر في الجرائم المنصوص عليها في المادة 8(2)(ب).
أولاً، تنص الحاشية رقم 34 لأركان الجرائم في المحكمة الجنائية الدولية على أن “مصطلح “النزاع المسلح الدولي” يشمل الاحتلال العسكري” فيما يتعلق “بكل جريمة بموجب المادة 8 (2) (أ).” ولا تظهَر حاشية مماثلة فيما يتعلق بالمادة 8 (2) (ب). وقد يدفع البعض بأن حالات الاحتلال العسكري هي نزاعات مسلحة دولية بموجب المادة 8 (2) (أ) ولكن ليس بموجب المادة 8 (2) (ب). تكمُن المشكلة الأساسية في هذا الاستدلال في أن المادة 8 (2) (ب) تتضمن جريمة حرب واحدة لا يُمكِن أن تحدث إلا خلال الاحتلال العسكري، وهي “نقل القوة المحتلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو ترحيل أو نقل كل أو أجزاء من سكان الأرض المحتلة داخل هذه الأراضي أو خارجها.” تتطلب العديد من جرائم الحرب الأخرى بموجب المادة 8 (2) (ب) عمليًا السيطرة المُتواصِلة على الأرض بينما تكون جرائم أخرى شائعة جدًا خلال الاحتلال العسكري. ومن ثم يبدو أن حالات الاحتلال العسكرية تشكل نزاعات مسلحة دولية بموجب كلا المادتين 8(2)(أ) و8(2)(ب) وتُثبِت اختصاص المحكمة على فئتي جرائم الحرب.
ثانياً، يخضع أي نزاع مسلح بين الأطراف السامية المُتعاقِدة في اتفاقيات جنيف لأحكام تلك الاتفاقيات، وهذا يكفي لإثبات اختصاص المحكمة على جرائم الحرب بموجب المادة 8(2)(أ) من نظام روما الأساسي. وفي الوقت نفسه، لا تحظر اتفاقيات جنيف مهاجمة المدنيين والتجويع كأسلوب من أساليب الحرب، بل تحظرها بروتوكولاتها الإضافية والقانون الدولي العرفي. وقد انضمّت فلسطين إلى البروتوكولات الإضافية، في حين لم تنضم إسرائيل. وقد يزعم البعض أن اختصاص المحكمة على جرائم الحرب بموجب المادة 8(2)(ب) يعتمد بالتالي على ما إذا كان القانون العُرفي للنزاع المسلح الدولي ينطبق على سلوك إسرائيل في غزة.
وقد تستجيب الدائرة لمثل هذا التحدي بطرقٍ عدّة. فقد تتبع نهج محكمة العدل الدولية: أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين نجم عن نزاع مسلح دولي بين إسرائيل والأردن ومصر، وهو بالتالي يخضع للقانون العُرفي للنزاع المسلح الدولي. وفي حين انتهت الأعمال العدائية بين الدول الثلاث منذ عقود من الزمان، فإن المدنيين في الأراضي المحتلة يحتفظون بحمايتهم القانونية من الهجمات والتجويع الموجّهين إليهم. ومن الجدير بالذكر أن محكمة العدل الدولية وجدت أن “سيطرة إسرائيل على الحدود البرية والبحرية والجوية” و”القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع” هي “عناصر أساسية للسلطة” وهي تؤسس لالتزامات إسرائيل المستمرة بموجب قانون الاحتلال (الفقرة 93). إن إساءة استخدام هذه العناصر الأساسية للسلطة لتجويع المدنيين يُثبِت صلة واضحة بين السلوك المزعوم والاحتلال. وعليه، فإن السلوك المزعوم المُّوجّه ضد المدنيين يشكل انتهاكًا خطيرًا للقوانين والأعراف المعمول بها في النزاعات المسلحة الدولية ويندرج تحت المادة 8 (2) (ب) (الخامس والعشرون) من نظام روما الأساسي. وربّما يكون هذا هو النهج الأكثر أمانًا من الناحية القانونية.
وبدلاً من ذلك، قد تتبع الدائرة اقتراح فريق الخبراء: فلسطين هي دولة بموجب القانون الدولي العام، والاحتلال العسكري الجزئي أو الكلي لأراض فلسطينية من قبل إسرائيل ينشئ نزاعًا مسلحًا دوليًا بينهما يحكمه القانون العرفي للنزاعات المسلحة الدولية. فلسطين لديها سكان دائمون، وأرض محدّدة، وحكومة، والقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى ومع المنظمات الدولية. والقيود المفروضة على فعالية حكومتها تأتي نتيجة لسياسات إسرائيل وممارساتها واستمرار وجودها، والتي وجدت محكمة العدل الدولية بأنه غير قانوني. كما تعترف الأغلبية الساحقة من المجتمع الدولي بفلسطين كدولة، بما في ذلك الأغلبية الساحقة من الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية. وأخيرًا، قررت الجمعية العامة “أن دولة فلسطين مؤهلة لعضوية الأمم المتحدة وفقًا للمادة 4 من ميثاق الأمم المتحدة، وينبغي بالتالي قبولها عضواً في الأمم المتحدة”. (الفقرة 1). الدول فقط مؤهلة لعضوية الأمم المتحدة. إن دولة فلسطين كانت لتكون اليوم عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة، لولا التصويت السلبي الوحيد للولايات المتحدة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ورغم أنني أتفق مع هذا الخط التبريري، فإن الدائرة قد تظل مترددة في إصدار حكمها بشأن دولانية فلسطين.
وأخيراً، قد تتبع الدائرة موقف اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأن القانون العرفي للنزاعات المسلحة الدولية ينطبق على النزاعات المسلحة بين الدول والكيانات من غير الدول ذات الشخصية القانونية الدولية، بما في ذلك المنظمات الدولية والتحالفات العسكرية بين الدول. ولا شك أن فلسطين تمتلك شخصية قانونية دولية وتمثل شعب الأراضي الفلسطينية المحتلة على الصعيد الدولي. ورغم أن فلسطين تخلّت عن الكفاح المسلح، فإن قواتها الأمنية سوف تخضع لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية في حالة نشوب أعمال عدائية مباشرة مع طرف سامٍ مُتعاقِد آخر. ومن المنطقي أن تخضع هذه القوات للقانون العرفي للنزاعات المسلحة الدولية في حالة نشوب أعمال عدائية مباشرة مع دولة ليست طرفاً في البروتوكولات الإضافية، بما في ذلك إسرائيل. وعلى النقيض من ذلك، فإن استخدام القوة ضد فلسطين، بما في ذلك الاحتلال العسكري لأرضها، ينبغي أن يخضع للقانون العرفي للنزاعات المسلحة الدولية سواءً كانت فلسطين دولة أم لا.
ولابد أن أشير إلى أن آخرين قد يطعنون في قرار الدائرة بأن سلوك الجناح العسكري لحماس تجاه القوات الإسرائيلية والمدنيين الإسرائيليين يخضع حصرياً لقانون النزاعات المسلحة غير الدولية. وكقاعدة عامة، أؤيد تماماً تطبيق القواعد الأكثر حماية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية، وجرائم الحرب المرتبطة بها بموجب نظام روما الأساسي، على سلوك الجناح العسكري لحماس أيضاً. ومن حيث المبدأ، لم أجد بعد أساساً قانونياً صلباً لهذا الموقف.
الخُلاصة الجنائية الدولية النزاعات المسلحة فلسطين
تُركّز هذه المقالة على استنتاجات الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية التي تُفيد بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت مسؤولان عن جرائم حرب بموجب المادة 8(2)(ب) من نظام روما الأساسي، في حين أن المصري مسؤول عن جرائم حرب بموجب المادتين 8(2)(ج) و8(2)(هـ). ووجدت الدائرة التمهيدية أيضًا أن هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت والمصري مسؤولون عن جرائم ضد الإنسانية كجزء من هجمات واسعة النطاق ومنهجية ضد السكان المدنيين في غزة وإسرائيل على التوالي. وهذا الاستنتاج يجعل بعض القضايا الفنية التي تمّت مناقشتها أعلاه أقلّ أهمية من الناحية العملية.
ومن بين أمور أخرى، وجدت المحكمة أسباباً “معقولة للاعتقاد بأن غياب الغذاء والماء والكهرباء والوقود، ومواد طبية معيّنة، أوجد أحوالاً معيشية بقصد إهلاك جزء من السكان المدنيين في غزة، نجم عنها وفاة مدنيين، بما في ذلك من الأطفال، بسبب سوء التغذية والجفاف”، مما يشكّل جريمة ضد الإنسانية تتمثل في القتل. ومَضت المحكمة في استنتاجها أن “السكان استُهدفوا لأسباب سياسية و/أو أسباب متعلقة بالانتماء الوطني]. و[ توصلت الدائرة بالتالي إلى أن الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد قد ارتُكبت.” ولا تعتمد هذه النتائج على أي صلة بنزاع مسلح، سواء كان دولياً أو غير دولي.
إن القانون الجنائي الدولي، بطبيعته، ينظر إلى الوراء لتحديد المسؤولية عن الجرائم الماضية. ومهمتنا الأكثر إلحاحاً هي التطلع إلى الأمام، لمنع الجرائم في المستقبل وإنهاء الجرائم المستمرة. وفي هذا الصدد، فإن النتيجة الأكثر أهمية التي توصلت إليها المحكمة هي أن “سلوكاً مشابهاً للسلوك الذي تتطرق إليه أوامر الاعتقال يبدو مستمراً”.