مآلات تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في فلسطين في ظل رفض إسرائيل التعاون – سيناريوهات وحلول قانونية
إعداد: ناصر ثابت وبشار سلوت
مراجعة وتحرير: إحسان عادل
*لتحميل الورقة بصيغة pdf، انقر هنا (10 صفحات)*
مقدمة
بعد سنوات من السجال القانوني الذي لحق انضمام دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2015، والذي تبعه إحالة الوضع في فلسطين للمحكمة لكي تقوم بالتحقيق في الجرائم المرتكبة بهذا الخصوص، قررت المدعية العامة للمحكمة، رسميًا، في 3 مارس 2021، فتح تحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة في أراضي دولة فلسطين، والتي تشمل الضفة الغربية، القدس الشرقية، وقطاع غزة.
وفي ظل سعيها للمُضي قُدما بالتحقيق، أرسلت المحكمة، بواسطة المدعية العامة حينها (فاتو بنسودا)، خطابًا للحكومة الإسرائيلية تطالبها بالتعاون معها بشأن التحقيق، إلا أن الأخيرة أعلنت صراحةً عن عدم رغبتها في التعاون، مُسندةً ذلك الى أن المحكمة لا تملك أية صلاحية لإجراء التحقيقات تتعلق بإسرائيل كونها ليست طرفاً في نظام روما.
وفي ضوء ذلك، يثور التساؤل عن مآلات هذا الرفض الإسرائيلي على المسار القانوني للتحقيق في الجرائم التي يعتقد بأن إسرائيل ارتكبتها أمام المحكمة الجنائية الدولية. فهل يمثل ذلك تحديّا جديدا لمسار فلسطين الذي يواجه صعوبات جمّة في القضية المنظورة أمام المحكمة؟ وكيف سيتعامل “كريم خان”، المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية مع هذا الأمر، وكيف سيحقق في القضايا التي من المُفترض أنه سيباشر العمل عليها في ظل الرفض الإسرائيلي؟ وما الآليات القانونية التي تملكها المحكمة لتساعدها في إجراء التحقيقات في ضوء هذا الرفض؟ هذا ما سنحاول التعامل معه في هذا المقال.
أولاً: مخاطبة المحكمة الجنائية الدولية لإسرائيل
في 17 مارس/آذار 2021، أرسلت المحكمة الجنائية الدولية خطاباً خاصاً إلى الحكومة الإسرائيلية يتعلق باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأمهلتها مدة 30 يوماً للرد على هذا الإعلان أو الخطاب. وعلى الرغم من أن المحكمة لم تصرح بمضمون هذا الخطاب، إلا أن الخطاب المكون من صفحة ونصف، بحسب ما نشرته “القناة 13 الإسرائيلية”، عرض مجالات التحقيق الرئيسية الثلاثة، وهي: الحرب على قطاع غزة سنة 2014، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية، إضافة إلى “الاحتجاجات السلمية” على حدود غزة عام 2018.
يأتي هذا الخطاب بعد أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة، رسميًا، في (3 مارس2021)، عن فتحها تحقيقاً في “الوضع في فلسطين”. حيث إنه وفقا للمادة (18) من نظام روما، التي تنظم مسألة القرارات الأولية المتعلقة بالمقبولية، يشترط أن يقوم المدعي العام بإشعار جميع الدول الأطراف والدول التي يرى في ضوء المعلومات المتاحة أن من عادتها أن تمارس ولايتها على الجرائم موضع النظر، وللمدعي العام أن يشعر هذه الدول على “أساس سري”، (وهو ما تحقق في حالة هذا الخطاب).
وفي غضون شهر واحد من تلقي ذلك الإشعار، للدولة أن تبلغ المحكمة بأنها تجري أو بأنها أجرت تحقيقاً مع رعاياها أو مع غيرهم في حدود ولايتها القضائية فيما يتعلق بالأفعال الجنائية التي قد تشكل جرائم تدخل في اختصاص المحكمة وتكون ذات صلة بالمعلومات المقدمة في الإشعار الموجه إلى الدولة. وبناءً على طلب تلك الدولة، يتنازل المدعي العام لها عن التحقيق مع هؤلاء الأشخاص، ما لم تقرر الدائرة التمهيدية الإذن بالتحقيق بناءً على طلب المدعي العام.
رفض التعاون: امتداد للموقف الإسرائيلي من المحكمة الجنائية الدولية
جاء الرد الإسرائيلي على هذا الخطاب، من خلال إعلان الحكومة الإسرائيلية عن رفضها الرسمي للخطاب الموجه من مكتب المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد مشاورات حثيثة كانت قامت بها “إسرائيل”، وكان آخر هذه المشاورات هو ‘‘اعتماد توصيات الفريق الوزاري الذي يترأسه مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، والذي أوصى بعدم التعاون مع المحكمة، مع عدم ترك كتاب المدعية العامة دون رد، وإنما الرد عليه والتوضيح بأن المحكمة تتصرف بلا صلاحية، وأن إسرائيل هي دولة قانون تستطيع إجراء التحقيقات داخلياً’’.
الجدير بالذكر، أنّ رفض هذا الخطاب للمحكمة ليس أمرًا جديدًا في التعاطي الإسرائيلي معها، لأن إسرائيل رفضت منذ البداية التعامل مع المحكمة؛ كامتداد لرفضها للمسار الفلسطيني من اللجوء للمحكمة. وهو الأمر الذي ظهر جليًا منذ اللحظات الأولى التي اتجهت فيها فلسطين لهذا المسار، وتجلى موقفها في سيلٍ من التصريحات المندّدة إبان كل تقدم كانت تحرزه قضية فلسطين في أروقة المحكمة، علاوة على ضغوطات دبلوماسية كبرى قامت بها إلى جانب حليفتها، الولايات المتحدة الأمريكية، لثني السلطة الفلسطينية عن الاستمرار في مسار المحكمة، ومنها العقوبات التي كان فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على بعض العاملين في المحكمة، ومنهم المدعية العامة السابقة ذاتها.
ولغايات التوثيق، نستعرض الموقف الإسرائيلي الرافض لتوجه فلسطين الى المحكمة الجنائية الدولية على النحو الآتي:
- في (يناير 2009)، وهو العام الأول للتحرك الفلسطيني نحو المحكمة، كانت المحاولة الأولى لفلسطين في المحكمة الجنائية الدولية، عقب عملية “الرصاص المصبوب”، وهي العملية العسكرية واسعة النطاق التي شّنتها إسرائيل على قطاع غزة في (ديسمبر 2009). لم تفلح تلك المحاولة لفلسطين في الانضمام للمحكمة، لأن وضعها ككيان يتمتع بصفة الدولة لم يكن واضحا. إثر ذلك، توجهت السلطة الفلسطينية عام (2012) إلى الأمم المتحدة، وحصلت بتاريخ (29 نوفمبر 2012) على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، وعلى الرغم من أنّ هذه العضوية فتحت الطريق أمام فلسطين للانضمام إلى المحكمة، إلا أنها لم تنضم حتى العام 2015، ويرجع ذلك إلى حجم الضغوط التي كانت قد مارسّتها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على السلطة الفلسطينية لثنيها عن الانضمام.
- في (يناير 2015): أودعت فلسطين إعلاناً بموجب المادة (12/3) من نظام روما، بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم المزعوم ارتكابها في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ (13 يونيو 2014)، وقامت في اليوم التالي بإيداع طلب انضمامها إلى نظام روما لدى الأمين العام للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي ردت عليه المحكمة بإعلان قبولها لطلب فلسطين، ثم إعلان المدعية العامة أنها شَرعت في دراسة أولية في “الوضع في فلسطين”. وقد رفضت إسرائيل هذه الخطوة، و اتهم رئيس الحكومة الإسرائيلية (نتنياهو)، المحكمة الجنائية الدولية بـ “النفاق”، وعبر عن موقف “إسرائيل” الواضح من رفض تعاملها مع المحكمة، بقوله: “أنّ إسرائيل لن تسمح بمثول جنودها أمام المحكمة”.
- في (20 ديسمبر 2019)، أصدرت المدعية العامة بياناً أعلنت فيه اختتامها للدراسة التمهيدية “للحالة في فلسطين”، بعد خمس سنوات من البدء بهذه المهمة، ووجدت أن “جميع المعايير القانونية بموجب نظام روما الأساسي بشأن فتح تحقيق قد تم استيفاؤها”، وطلبت من الدائرة التمهيدية إصدار حكم قضائي بشأن “نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(2)(أ) من نظام روما الأساسي في فلسطين’’. وفي اليوم نفسه الذي أعلنت فيه المدعية عن اختتامها للدراسة التمهيدية، عبرت إسرائيل عن موقفها القانوني فيما يتعلق بهذا الشأن، حيث أرسلت مذكرة قانونية، صادرة عن المدعي العام الإسرائيلي، قالت فيها، “إن المحكمة لا تملك الولاية القضائية في الحالة في فلسطين، وذلك لأن فلسطين لا تعتبر دولة لأنها تفتقر إلى عنصر السيطرة الفعلية على أراضيها، لا سيما وأنّ هذه الأراضي تُرك تحديدها للاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية (اتفاقيات أوسلو)، لتحل عبر المفاوضات بين الطرفين”. كما عبرت السلطات الاسرائيلية عن رفضها لقرار المدعية العامة، مشددة على أنه ليس للمحكمة ولاية قضائية في التحقيق في المزاعم بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية مع وصف ذلك بأنه “يوم أسود للحقيقة والعدالة”
- إثر طلب المدعية العامة من الدائرة التمهيدية تحديد الاختصاص الإقليمي، دعت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الدول الأطراف (فلسطين، وإسرائيل) والمجني عليهم، والدول الأخرى، والمنظمات و/أو الأشخاص بصفتهم (أصدقاء المحكمة)؛ لتقديم مذكرات أمام المحكمة بشأن طلب المدعية العامة آنف الذكر. ورغم ذلك، لم تقدم إسرائيل، على المستوى الرسمي، أيةّ مذكرات قانونية بشكل مباشر للمحكمة. لكنها عملت على تشجيع العمل غير الرسمي، عبر تقديم مذكرات قانونية أمام المحكمة من أكاديميين ونقابة المحامين الإسرائيليين ومنظمات مجتمع مدني داعمة لإسرائيل([1])، ومنها، على سبيل المثال، الورقة المقدمة من الرابطة الدولية للمحامين والقانونيين اليهود (IJL)، والتي هدفت لدحض الأسانيد القانونية التي ارتكزت عليها المدعية العامة في بحث الاختصاص الاقليمي للمحكمة في حالة فلسطين. واشتملت جهود إسرائيل كذلك على استقطاب دعم عدد من الدول الأطراف في المحكمة لتقديم مذكرات للمحكمة في نفس السياق، حيث تقدمت (7) دول، هي: استراليا، والمانيا، والنمسا، والتشيك، والبرازيل، وهنغاريا، واوغندا، بمذكرات تعارض فيها إجراء التحقيق، مسندة حججها في ذلك إلى انكارها لدولانية فلسطين، بالمعنى المقصود في نظام روما. وإلى جانب ذلك، قامت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تلك الفترة بفرض مجموعة من العقوبات على عدد من موظفي المحكمة، شملت تجميد أصولهم ومنعهم من دخول الأراضي الأمريكية.
لم تقدم إسرائيل، على المستوى الرسمي، أيةّ مذكرات قانونية بشكل مباشر للمحكمة. لكنها عملت على تشجيع العمل غير الرسمي، عبر تقديم مذكرات قانونية أمام المحكمة من أكاديميين ونقابة المحامين الإسرائيليين ومنظمات مجتمع مدني
- ثم وفي (3 مارس 2021)، وحين أعلنت المدعية العامة السابقة للمحكمة، رسميًا، عن فتحها تحقيقاً في “الوضع في فلسطين”، يعد إصدار الدائرة التمهيدية قرارها بخصوص الاختصاص الإقليمي للمحكمة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، ظهر الموقف الإسرائيلي المحتج على هذا القرار، عبر تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك “بنيامين نتنياهو”، الذي وصف قرار الشروع بالتحقيق، “بإنه إجراء معادٍ للسامية”. وكذلك، عبر تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي “غابي أشكنازي” الذي اتهم فيه المحكمة بالتحيز، بقوله: ” قرار المحكمة الجنائية الدولية يشوه القانون الدولي ويحول هذه المؤسسة إلى أداة سياسية للدعاية المعادية لإسرائيل”
ثانيا: ما هي مآلات الرفض الإسرائيلي على مسار التحقيق الذي ستجريه المحكمة؟
تجدر الإشارة بدايةً إلى أن إسرائيل غير مصادقة على نظام روما الأساسي، بمعنى أنها دولة غير طرف، ومع ذلك، باشرت المحكمة اختصاصها بناءً على الإحالة الموجهة لها من دولة فلسطين، باعتبارها دولة طرف في نظام روما، وهو الأمر الذي يسمح للمحكمة، بموجب المادة 12 من نظام روما، بالتحقيق في الجرائم التي ترتكب في أراضي دولة فلسطين، بغض النظر عن جنسية فاعلها، وبالتالي، تدخل أفعال المسؤولين الإسرائيليين في غزة والضفة الغربية في اختصاص المحكمة.
وفي ظل الرفض الإسرائيلي لتحقيق الجنائية الدولية أو التعاون معها، ما هي السيناريوهات المتصور حدوثها في التحقيق الذي تقوم به المحكمة؟ نطرح هنا 5 سيناريوهات:
– (السيناريو الأول: تعاون إسرائيل – اعتماد المسلك الطبيعي في التحقيق): وفق هذا السيناريو، قد يُتصور ممارسة المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة ضغطاً على السلطات الإسرائيلية لإقناعها بالتعاون مع المحكمة باعتباره مفيدا لإسرائيل، وقد يدفع تغير المدعية العامة للمحكمة وتعيين المدعي العام الجديد كريم خان إسرائيل لإعادة تقييم موقفها من رفض التعاون مع المحكمة، والذي يظهرها بمظهر الرافض للعدالة الدولية والمذنب الذي لا يريد المحاكمة. وفي الواقع، فإن هذا السيناريو مستبعد وفقاً لما هو ظاهر من الحالة السياسية الإسرائيلية الرافضة لفكرة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بنظر القضية أصلاً، ومدعومة بموقف مماثل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يبدو واضحاً أن هناك إجماعاً إسرائيليا عليه.
– (السيناريو الثاني: تراجع المدعي العام عن التحقيق): فأمام حقيقة عدم قدرة المدعي العام الجديد للمحكمة وأفراد مكتبه على الدخول الى الأراضي الفلسطينية لإجراء التحقيقات وملاحقة المجرمين المزعومين، في ظل سيطرة إسرائيل المطلقة على المنافذ للدخول للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، دون قطاع غزة المسيطر على معبره الجنوبي من قبل السلطات الفلسطينية والمصرية، في ضوء ذلك، قد يلجأ المدعي العام إلى وقف التحقيق إلى حين تغير الظروف، وذلك بموجب الفقرتين 1 و 2 من المادة 53 من ميثاق روما.
وتجدر الإشارة هنا الى أن هناك تشكيكاً حق بتعيين المدعي العام الجديد- السيد كريم خان- وتوجهه محتمل الى التراجع عن ما أقدمت عليه المدعية العام السابقة بفتح التحقيق بالجرائم المشتبه ارتكابها في فلسطين.
وفي هذا الصدد، يشير سفير الولايات المتحدة السابق لجرائم الحرب “ستيفن راب” إلى أنه يمكن للمدعي العام دائمًا المضي قدمًا “بدون دعم فعال من الدولة”، كما حصل في السودان وليبيا، لكنه يعترف بأن ذلك “لم يكن ناجحا جدًا”، حيث يصعب بناء حجة قوية للوصول إلى قضية تنتهي بالمحاكمة.
وفي حال حصل ذلك، فإنه يحق لدولة فلسطين الطعن بقرار المدعي العام أمام الدائرة التمهيدية بخصوص إغلاق التحقيق أو التراجع عنه، وذلك بموجب المادة (53/3/أ) من ميثاق روما.
– (السيناريو الثالث: تدخل مجلس الأمن لإرجاء التحقيق): قد يتدخل مجلس الأمن الدولي من أجل إرجاء التحقيق لمدة 12 شهرا، مع القدرة على تجديد هذا التوقيف لأجل غير معلوم من المرات، وذلك بموجب الرخصة الممنوحة لمجلس الأمن وفقاً لنص المادة 16 من ميثاق روما، وعلى أساس أن التحقيق الذي تقوم به المحكمة وفي ظل رفض إسرائيل له يمكن أن يؤثر على الأمن والسلم الدوليين. وفي الواقع، لم يسبق لمجلس الأمن أن أخذ هكذا إجراء على مدار عمل المحكمة، كما لم يُلوح المجلس أو الأعضاء الدائمين فيه بنيتهم استخدام صلاحية المجلس لإرجاء التحقيق المنظور أمام المحكمة فيما يتعلق بحالة فلسطين، لا سيما أن مسار المحكمة يلتقي مع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن في إدانة الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، ولا سيما الاستيطان. ويصف سفير الولايات المتحدة السابق لجرائم الحرب “ستيفن راب” هكذا خطوة في حال تمت بأنها “ستشكل سابقة خطيرة”. ولعل ما يدعم استبعاد هكذا خيار هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت طلبت، في وقت سابق، من مجلس الأمن، منح الحصانة لجنودها العاملين في قوات حفظ السلام في البلقان من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، عبر استخدام المادة 16 من النظام الأساسي، إلا أن ذلك لم ينجح، وواجه معارضة معظم الدول الأعضاء في المجلس حينها.
– (السيناريو الرابع: غل يد المحكمة عن التحقيق بسبب مباشرة إسرائيل للتحقيقات): حيث أن مباشرة إسرائيل بالتحقيق بالجرائم المرتكبة، وممارسة ولايتها القضائية على الجرائم المرتكبة بصورة حقيقة، يعطل قدرة المحكمة ومكتب ادعائها على نظر هذه الجرائم، استناداً الى فكرة مبدأ الاختصاص التكميلي المستشف من المواد (1 ،7 ،20 من نظام روما الأساسي)، كون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وهذا السيناريو في الواقع مستبعد لعدة أسباب، ومنها أن بعض الجرائم، ولا سيما الاستيطان، تمارسه إسرائيل كجزء ثابت من سياستها الحكومية وهويتها، بل وتم النص عليه في قانون القومية الإسرائيلية اعتبار أن من واجب الدولة دعمه. وهذا يعني، أنه في حال قررت إسرائيل الشروع في تحقيق، يجب أن تحقق في جريمة الاستيطان، وأن تحاسب كافة أركان الدولة التي عززت ارتكاب هذه الجريمة، وهذا غير متصور مطلقا. كما أن قيام إسرائيل بالتحقيق لا يمنع المحكمة من البحث في مدى جدية إسرائيل في التحقيقات، بما في ذلك مدى نزاهة الإجراءات، وذلك وفقاً لأحكام المادة 17 من ميثاق روما.
– (السيناريو الخامس: مضي المحكمة قدماً في التحقيق): وهذا هو السيناريو الذي نرجحه، حيث، كما بينا في مناقشة السيناريوهات الأربعة السابقة، يبدو ترجيحها ضعيفاً. ولكن، كيف يمكن للمحكمة أن تستمر في التحقيق في ظل عدم تعاون إسرائيل؟ هذا ما نناقشه في الجزء المتبقي من الورقة.
ثالثا: ما هي الآليات القانونية التي تملكها المحكمة لتساعدها في إجراء التحقيقات في ظل الرفض الإسرائيلي للتعاون؟ الجنائية الدولية إسرائيل سيناريوهات
تثير إشكالية عدم التعاون من طرف إسرائيل مع المحكمة معضلتين أساسيتين، وهما:
- عدم قدرة المحكمة على الوصول إلى الأراضي الفلسطينية لجمع المعلومات اللازمة ومعاينة الوقائع.
- عدم قدرة المحكمة على الوصول للمتهمين، في ظل وجود القادة الإسرائيليين في إسرائيل وفلسطين المحتلة.
وسوف نعالج هاتين المسألتين على انفراد في السطور التالية.
تجاوز عقبة جمع المعلومات اللازمة من الضفة الغربية والقدس الشرقية:
بداية، دعونا نتفق على أن رفض إسرائيل للتعاون يعني عدم قدرة الادعاء العام للمحكمة على الوصول للضفة الغربية والقدس الشرقية، بمعنى، عدم القدرة على متابعة قضية الاستيطان عن كثب. لكن زيارة قطاع غزة سوف تكون متاحة غالباً، من خلال مصر، التي رغم أنها ليست طرفا في ميثاق روما، إلا أنه يمكن للمحكمة أن تطلب تعاونها بموجب الباب التاسع من ميثاق روما. وهكذا، تبقى المشكلة هي عدم قدرة المحكمة على جمع المعلومات اللازمة من الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وفي الواقع، واجهت هذه المشكلة (لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في عام 2014) والتي أسست بناءً على قرار مجلس حقوق الإنسان رقم A/HRC/RES/S-21/1 بشأن النظر في جميع انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وبخاصة في قطاع غزة المحتل، في سياق العمليات العسكرية المنفّذة منذ 13 حزيران/يونيو 2014، حيث لم تستطع اللجنة دخول الأراضي الفلسطينية للتحقيق في الجرائم المرتكبة بسبب عدم حصولها على الإذن من السلطات الإسرائيلية بذلك، وهو ما دفع اللجنة إلى خلق حلول للتعاطي مع هذه الإشكالية، حيث حصلت اللجنة على المعلومات التي تحتاجها عبر مقابلة عدد من الضحايا و الشهود في العاصمة الأردنية عمان، أثناء خضوعهم للعلاج هناك، حيث تحدث أعضاء اللجنة وفرق التحقيق التابعة لها مع عدد كبير من الشهود والضحايا من قطاع غزة و الضفة الغربية.
للمدعي العام، أن يرتأى الطريقة المناسبة في تجميع المعلومات الخاصة بالجرائم والمتهمين، كأن يقوم بإنابة مهمة جمع المعلومات للتحقيق الى مؤسسات حقوق الإنسان أو غيرها من الجهات الداخلية في الأراضي الفلسطينية
كما استخدمت لجنة التحقيق التكنولوجيا المسموعة و المرئية لإجراء العديد من المقابلات مع مجموعة واسعة من الشهود والضحايا في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إضافةً الى ذلك، سافر العديد من الشهود والمنظمات غير الحكومية إلى جنيف للإدلاء بشهاداتهم أمام اللجنة. وقُدمَ لها العديد من التقارير الحقوقية من المنظمات المحلية والدولية ذات العلاقة بتحقيقها بشأن الجرائم المرتكبة.
وهكذا، لم يشكل منع لجان التحقيق الدولية حائلاً من الوصول الى الضحايا وأماكن ارتكاب الجرائم. وقد أفرد ملحق القواعد والإجراءات التابع لميثاق روما في إطار المادة (67) إمكانية تعويل المحكمة الجنائية الدولية ومكتب ادعائها العام على استخدام تكنولوجيا الاتصال المرئي أو الاتصال المسموع في التواصل مع الضحايا واستجوابهم وجمع المعلومات منهم.
كما يمكن للمحكمة، بموجب المادة 87 من ميثاق روما، طلب التعاون من الدول الأطراف (ليس فلسطين فقط بل أي دولة طرف)، كما يمكن لها أن تبرم اتفاقا للتعاون مع دولة غير طرف، كما يمكن لها أن تطلب إلى أي منظمة حكومية دولية، كهيئات الأمم المتحدة ولجان التحقيق السابقة والمنظمات الدولية الأخرى، تقديم معلومات أو مستندات. كما أنه، وفي ظل عدم قدرة فلسطين على التعاون مع المحكمة لعدم وجود سلطة لها على الأرض، يمكن للمدعي العامة أن يلجأ إلى المادة (57/3/د) من ميثاق روما، والتي تجيز للدائرة التمهيدية أن تأذن للمدعي العام باتخاذ خطوات تحقيق محددة داخل إقليم دولة فلسطين. ويفهم من ذلك أن المدعي العام، بعد حصوله على الاذن من الدائرة التمهيدية، له أن يرتأى الطريقة المناسبة في تجميع المعلومات الخاصة بالجرائم والمتهمين، كأن يقوم بإنابة مهمة جمع المعلومات للتحقيق الى مؤسسات حقوق الإنسان أو غيرها من الجهات الداخلية في الأراضي الفلسطينية، أو أن يقوم بتعيين مفوض عنه داخل الأراضي الفلسطينية.
تجاوز عقبة تسليم المتهمين والمطلوبين
وفقاً للباب التاسع من نظام روما، يكون للمحكمة، لغايات قيامها بعملها، أن تطلب المساعدة من الدول الأطراف في نظام روما.([2]) وذلك بأن تتعاون معها في تنفيذ القرارات والمذكرات الصادرة عن المحكمة. وذلك على اعتبار أن المحكمة؛ كمؤسسة قضائية، ليس لها قوة شرطية أو هيئة تنفيذية خاصة بها؛ وبالتالي، فهي تعتمد على تعاون الدول الأطراف بشكل رئيس.
ووفق ذلك، يكون لمكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية أن يصدر مذكرات اعتقال بحق أي إسرائيلي يثبت تورطه في ارتكاب جرائم دولية من تلك الموصوفة في نظام روما. وبمجرد صدور مثل هذه المذكرات فإن من واجب الدول الأطراف اعتقاله وتسليمه لدى المحكمة الجنائية، بموجب أحكام المادة (59) من نظام روما التي تنص الفقرة (7) منها على أنه” بمجرد صدور الأمر بتقديم الشخص من جانب الدولة المتحفظة، يجب نقل الشخص إلى المحكمة في أقرب وقت ممكن”. علاوة على ذلك، تملك المحكمة توجيه طلبات التعاون إلى المنظمات الدولية. ومن ذلك، صلاحية توجيه هذه المذكرات لمنظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) التي تساعدها في تنفيذ مثل هذه المذكرات، وذلك وفقاً للمادة (87/2) من نظام روما، ووفقاً لاتفاقية التعاون التي تربط الدول غير الأطراف بالمحكمة الجنائية الدولية.
وفي الواقع، فإن التعاون الدولي هو الذي نجح في تقديم مرتكبي الجرائم الدولية للمحكمة في العديد من الحالات، على غرار ما قامت به “فرنسا”، عملاً بالتزامها في تقديم التعاون والمساعدة المنصوص عليها في نظام روما، في حالتين على الأقل، الحالة الأولى: إلقاء القبض على المتهم “كالكيست مباروشيمانا”،السكرتير التنفيذي للقوات الديمقراطية لتحرير روندا، وذلك تنفيذًا لمذكرة اعتقال صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مقاطعات كيفو في الكونغو، والحالة الثانية: إلقاء القبض على” باتريس إدوارد نغايسونا”، قائد ميليشيا “آنتي-بالاكا” المسيحية، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في الجانب الغربي لجمهورية أفريقيا الوسطى.
وفي الوقت نفسه، لم ينجح التعاون الدولي في مرات عديدة، وذلك على غرار ما حصل في حالة الرئيس السوادني السابق، “عمر البشير“، أثناء زيارته لدولة “تشاد”. حيث لم تقم “تشاد” بإلقاء القبض على “البشير”، وكذلك الأردن، رغم أنهما أطراف في نظام روما، والذي يُلزم الدول بالتعاون مع المحكمة في تنفيذ مذاكرات القبض.
نعم، من الوارد جدا أن يكونّ هنالك رفض من جانب كثير من الدول الأطراف في نظام روما؛ للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية؛ في سياق التحقيق الذي تجريه المحكمة في “الحالة في فلسطين”. وذلك لاعتبارات سياسية بحتة، والذي قد يحول دون تقديم الأشخاص الإسرائيليين الذين سوف يصدر بحقهم مذكرات اعتقال إلى المحكمة، إلا أن ذلك سوف يمثل ضغطا كبيرا على تلك الدول، ويضعها في خانة المتستر على مرتكبي جرائم دولية تدخل في اختصاص المحكمة، وهو اتهام لن تتقبله تلك الدول بسهولة، وسوف تسعى دوما إلى تجنبه، بما في ذلك عبر تجنب استقبال مسؤولين إسرائيليين مطلوبين للمحكمة بشكل علني.
خاتمة
على الرغم من التحديات القانونية والواقعية التي يخلقها الرفض الإسرائيلي للتعاون مع المحكمة، إلا أن المحكمة تملك من الآليات والديناميكيات القانونية والاجرائية البديلة عن المسار الطبيعي للإجراءات التي قد تتخذ، والتي تعطيها صلاحية معقولة عبر التعاون مع الدول الأطراف والمنظمات الدولية وغيرها من الجهات التي تراها مناسبة من أجل تمكينها من ملاحقة مسؤولين إسرائيليين يثبت تورطهم بارتكاب الجرائم التي تنظرها المحكمة. وبالتأكيد، لا يزال الباب مفتوحا من طرف المحكمة لكي تقوم إسرائيل بالتعاون، وهو ما يعطيها فرصة أخيرة للدفاع عن المتهمين الذين ينتمون اليها، إلا أنها ما زالت متمسكة برفضها حتى هذه اللحظة.
_______________________________
[1]The Lawfare Project/The Institute for NGO Research/Palestinian Media Watch /The Jerusalem Center for Public Affairs / ShuratHaDin / UK Lawyers for Israel / B’nai B’rith UK / International Legal Forum / Jerusalem Initiative / Simon Wiesenthal Centre.
[2]بلغ عدد الدول الأطراف على نظام روما حوالي 123 دولة. للمزيد أنظر: جمعية الدول الأطراف، المحكمة الجنائية الدولية،https://cutt.us/U8GfF
* لا تتحمل القانون من أجل فلسطين أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء المنظمة. تتعهد القانون من أجل فلسطين بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.
الجنائية الدولية إسرائيل سيناريوهات