القدس في ظل المحاكم الدولية: سيناريوهات العام 2020
اللغة الأصلية للنص: الإنجليزية
عنوان المقال بالإنجليزية:
Jerusalem before the International Courts: Utopias 2020
رابط المقال الأصلي ومصدره بالإنجليزية: هنا
تاريخ نشر المقال الأصلي: 10 أغسطس/كانون الأول 2020
الكاتب: ناثانيال بيرمان، الأستاذ في الشؤون الدولية والقانون والثقافة الحديثة بجامعة براون.
ترجمه إلى العربية: مهجة المحيسن
بدأ الكاتب ناثانيال بيرمان مقاله حول القدس في ظل المحاكم الدولية باستعراض تعريفي بالأرض محل النزاع، وهي تلك الأرض الواقعة بين النهر والبحر، و التي دائما ما يثير اسمها الجدل، والتي تتصدر مراراً وتكرارًا طليعة اهتمامات المجتمع الدولي.
ومما لا شك فيه، يقول بيرمان، أن تزايد الاهتمام الدولي في القضية الفلسطينية مؤخرًا تعلله العديد من التطورات المفصلية ذات الشأن، لا سيما إعلان ترامب صفقة القرن بجانب التهديدات الإسرائيلية المتكررة بضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إقليمها، وكذلك ارتفاع وتيرة الاعتراضات الدولية وحتى الاضطرابات الداخلية في فلسطين وتشكيل حالة الرفض والمقاومة جراء هذه المقترحات. إلا أنه -وكما هو الحال منذ الأزل- فقد بقيت المحاكم الدولية قاصرة عن إيجاد حل أو إصدار حكم مفصلي يتقرر معه مستقبل هذا النزاع.
ويركز الكاتب خلال مقاله على الوضع القانوني للقدس كما يستنتجه ضمنيًا من مجموع الحجج القانونية المقدمة أمام المحاكم الدولية، حيث يرى أن هذه الحجج تشير بالكاد إلى أربع طوباويات (سيناريوهات) مختلفة تتوافق كل واحدة منها مع أحد مقترحات الحلول التي طرحت مسبقا لحل هذا النزاع.
وفي حين تعتبر القضية الأشهر بشأن فلسطين تلك المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية. حيث أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر 2019 عن نيتها فتح تحقيق رسمي في جرائم حرب محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وتبعا لذلك طلبت من الدائرة التمهيدية في المحكمة تحديد مدى صحة الولاية القضائية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية قبيل المباشرة بالتحقيق.
أما القضية الأخرى فقد رُفعت في سبتمبر 2018 أمام محكمة العدل الدولية، حيث يصف عنوان القضية موضوعها بشكل واف وهو: نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس (فلسطين ضد الولايات المتحدة الأمريكية).
في قضية محكمة العدل الدولية، تتهم دولة فلسطين الولايات المتحدة بانتهاك أحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية من خلال نقل سفارتها من تل أبيب إلى مدينة القدس. وفقًا لفلسطين، تنص اتفاقية فيينا على “إنشاء البعثة الدبلوماسية للدولة المرسلة على أراضي الدولة المستقبلة”، حيث أنه وسندا للقانون الدولي لا يمكن اعتبار مدينة القدس أرضا تابعة لدولة إسرائيل.
وفي القضيتين، كانت مسألة دولانية فلسطين واحدة من المسائل الجدلية الأساسية، ففي قضية الجنائية الدولية، يعتمد قرار المحكمة في الدرجة الأولى على مدى إمكانية اعتبار الأراضي الفلسطينية “دولة” بالمعنى القانوني الوارد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ولسوء الحظ، وفي قرار مفاجىء لكل المترقبين والمنتظرين، أجلت المحكمة منتصف شهر يوليو الماضي البت في هذه المسألة لعطلة المحكمة الصيفية دون أن تصدر قرارها الذي طال انتظاره.
وفي قضية العدل الدولية، يبقى أيضاً تساؤل مدى صحة اعتبار فلسطين دولة بالمعنى القانوني أمرا في غاية الأهمية؛ حيث أنه وبموجب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، “يحق للدول حصرا أن تكون طرفا في القضايا المعروضة على المحكمة”. ومع ذلك، فإن النظر في هذه القضية متوقف حتى اليوم، منذ أن رفضت الولايات المتحدة الأمريكية المشاركة في اجتماع المحكمة المحدد للنظر في الخصومة، ولم تقدم كذلك المذكرة القانونية المطلوبة منها على الرغم من انقضاء المدة المحدد لذلك، وفي حين قدمت فلسطين مذكرتها القانونية إلا أن المحكمة لم تقم حتى بنشرها للاطلاع العام.
في هذا المقال لا يغطي الكاتب كافة الجوانب القانونية المتعلقة بقضيتي فلسطين أمام الجنائية الدولية والعدل الدولية، بما في ذلك نقطة الخلاف الرئيسية حول ما إذا كان ينبغي اعتبار فلسطين “دولة” بالمعنى القانوني الوارد في نظامي المحكمتين، بل إنه يركز بدلا من ذلك على المكانة القانونية لمدينة القدس بالتحديد.
من خلال البحث في الإفادات القانونية التي قدمتها فلسطين أمام المحاكم الدولية، يلحظ الكاتب وجود تخبط في الموقف الفلسطيني المتخذ في كلا القضيتين. ففي طلبها إلى محكمة العدل الدولية، استشهدت فلسطين مرارًا وتكرارًا بقرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 “قرار خطة التقسيم”، حيث أنه وبموجب هذا القرار، كان من المفترض اعتبار القدس والمناطق المحيطة “الضفة الغربية” تحت وصاية الحكم الدولي الذي يديره مجلس وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات على الأقل. ويشير طلب فلسطين من محكمة العدل الدولية إلى أن القرار 181 يحظر اعتبار القدس تحت سيادة أي دولة. ولهذا السبب، فمن غير اللائق إنشاء سفارة في تل أبيب. وهكذا، فإن هذا الطلب يشير إلى المرجعية الحصرية لأحكام التدويل الواردة في القرار رقم 181 بشأن تقرير الوضع القانوني لمدينة القدس.
أما أمام المحكمة الجنائية الدولية، فإن فلسطين تدعي أن موافقتها على اختصاص المحكمة كافية للسماح للمدعية العامة بفتح تحقيق رسمي في الجرائم المرتكبة في جميع الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس؛ على اعتبار أن الاختصاص الجنائي الدولي ينعقد حال موافقة الدولة ذات السيادة على ذلك. مما يظهر معه تعارض مع موقفها أمام محكمة العدل الدولية، والذي يشير إلى عدم خضوع مدينة القدس لسيادة أي دولة!
أن الهدف من تسليط الضوء على هذا التعارض في الموقف الفلسطيني أمام المحكمتين ليس لنفي ولاية المحكمة الجنائية الدولية على الاطلاق. حيث يمكن لأي شخص مدرب في التحليل القانوني أن يتوصل بسهولة لإظهار أن المواقف لا تلغي بالضرورة بعضها البعض. وقد يجادل المرء بأن القضايا معروضة على محاكم مختلفة، وتحكمها هيئات قانونية مختلفة، وتشمل أطرافًا مختلفة. علاوة على ذلك، غالبًا ما يقدم المتقاضون في جميع أنحاء العالم حججًا قانونية غير متوافقة لدعم ادعاءاتهم الإجمالية حتى في حالة واحدة. علاوة على ذلك، يمكن للفلسطينيين أن يشيروا إلى أن إسرائيل أيضًا اتخذت دائمًا موقفًا غامضًا بشأن تحديد حدودها، خاصة فيما يتعلق بالضفة الغربية، ولذلك لا ينبغي اتخاذ مثل هذا الموقف ضد الفلسطينيين.
أيا من هذه الحجج، مهما كانت صحتها، لم تكن ضمن محور تركيز الكاتب. وإنما هدف لتسليط الضوء على المضمون “الصورة المثالية” الكامنة يبن كافة هذه المواقف القانونية، وكذلك في الانتقادات الموجهة لها. حيث يظهر ذلك محدودية ومدى القصور القانوني الدولي حول النزاع بشكل عام، في ظل أن المواقف القانونية المختلفة بشأن مدينة القدس تشير ضمنيا إلى أربعة “حلول” مختلفة للأرض. وهي: تقسيم الدولة بين سيادتين إقليميتين، فرض أحكام التدويل، هيمنة مجموعة إثنية واحدة على الأخرى داخل الدولة، وأخيراً، تقسيم السلطة بين حكومتين مستقلتين داخل دولة واحدة.
أولاً: تقسيم الدولة بين سيادتين إقليميتين (حل الدولتين):
لا تدعي فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية أن هناك دولة اسمها فلسطين وحسب، بل تقول إن أرض فلسطين تتكون من كافة المناطق التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967: غزة والضفة الغربية التي تشمل أيضا أجزاءً من مدينة القدس، والتي كانت تقع سابقا تحت سيادة الأردن. من هذه الرؤية يتضح إمكانية نفي وجود نزاع اقليمي حاليا حول وجود إقليمين مستقلين في ذات الدولة، يتمتع كل منهما بسيادة تامة على إقليم محدد، ولهما صلاحية إبرام اتفاقيات دولية بشأن ذلك الإقليم. هذه الرؤية تعتمد على “نظام ويستفاليا”، وهي رؤية الدولتين المتساويتين، والتي تحترم كل منهما سيادة الأخرى. بعبارة أخرى، يسمى هذا الإقتراح ب “حل الدولتين”.
ثانياً: فرض أحكام التدويل:
الموقف الفلسطيني أمام محكمة العدل الدولية يشير إلى أن جزءاً من الأراضي الفلسطينية – القدس وما حولها- قد خرج من نطاق سيادة الدولة المحلية، ووُضِع تحت حكم السيادة الدولية. إن الفكرة القائلة بأن النزاعات الإثنو-قومية يمكن حلها على أفضل وجه من خلال وضعها تحت حكم دولي محايد هو نوع آخر من الحلول: تم استخدامه سابقا لانهاء نزاعات عدة: مثل سيليزيا العليا (1923) وفلسطين (1947) وكوسوفو (1999). مع الأخذ بعين الاعتبار أن التدويل في هذه الحالة ينطبق فقط على مدينة القدس، إلا أنها فكرة تبدو مثالية يمكن تطبيقها على كافة الأراضي الفلسطينية، وربما على كافة دول العالم. عند ذروة عملية أوسلو، أشرت إلى هذا النوع من المدينة الفاضلة على أنه “الخيال العالمي المطلق”. تستمر هذه الرؤية اليوتوبية في جذب الكثيرين الذين ينظرون إلى هذا الصراع، حتى لو كان ذلك في بعض الأحيان في أشكال أقل كقوات حفظ السلام الدولية.
ثالثا: هيمنة مجموعة إثنية واحدة على الأخرى داخل الدولة:
يجسّد أحد الانتقادات الإسرائيلية للموقف الفلسطيني في إفادتها المقدمة للمحكمة الجنائية الدولية موقفًا مثاليا ثالثًا، حيث تجادل إسرائيل بأن فلسطين لا تستطيع تفويض اختصاصها الجنائي إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن “أي ولاية قضائية يمتلكها الفلسطينيون حاليًا تنبع من الولاية القضائية الممنوحة لهم بموجب اتفاق أوسلو”. علما بأن اتفاق أوسلو لا ينكر سلطة السلطة الفلسطينية على الإسرائيليين في الضفة الغربية وحسب، بل يمنعها أيضا من ممارسة أي ولاية قضائية على كافة أراضي القدس. وبما أن الولاية القضائية التي تستطيع الدول تفويضها إلى المحكمة الجنائية الدولية لا يعقل أن تكون أكبر من تلك الممنوحة لها، فلا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تتولى مهمة النظر والتحقيق في الجرائم المزعوم ارتكابها من قبل الإسرائيليين في الضفة الغربية، وليس لها ولاية على أية جرائم تقع في القدس على الإطلاق.
هذه الحجة تستخلص من بيان إسرائيل بأن “أي ولاية قضائية يمتلكها الفلسطينيون حاليًا تنبع من الولاية القضائية الممنوحة لهم بموجب اتفاق أوسلو”، لذلك تستمر اسرائيل في الاحتفاظ بكافة السلطات التي لم تفوضها للسلطة الفلسطينية صراحة في اتفاق أوسلو، مما يظهر معه وتشير ضمنيا إلى كونها مصدر لجميع السلطات في البلاد.
إن عبارة “مصدر السلطات” قريبة جدا من مفهوم “السيادة التامة”. ومن هذا المنظور، لا يحق للفلسطينيين ممارسة أي صلاحيات أو سلطات غير تلك التي “تمنحها لهم إسرائيل” بوصفها “مصدر السلطات” في البلاد. وبغض النظر عن العبارات التي استخدمتها إسرائيل في هذا التصريح، إلا أنه وبلا شك يجسّد رؤية شاملة وهي تختلف عن ما يسمى “حل الدولة الواحدة”، الذي أطلق عليه البعض أيضا “الإثنوقراطية” -حيث تهيمن المجموعة الإثنو قومية ذات الأغلبية في “الدولة الواحدة” على المجموعة القومية ذات الأغلبية في الضفة الغربية-. -حيث تهيمن المجموعة الإثنو قومية ذات الأغلبية في “الدولة الواحدة” على المجموعة القومية ذات الأغلبية في الضفة الغربية حصرا. وتنحصر سلطة المجموعة الإثنو قومية الخاضعة للسيطرة بالمقدار الذي تمنحه لها تلك “الدولة الواحدة”. وبالطبع، يمكن مساءلة توافق هذه الرؤية مع ما هو منصوص عليه في اتفاق أوسلو.
من المثير للاهتمام البحث عن مصدر “جميع السلطات” هذه التي تدعيها إسرائيل. ولا بد هنا من الرجوع إلى حاشية في اتفاقية أوسلو الثانية لعام 1995 والتي تمنح سلطة إسرائيل إلى “حكومتها العسكرية”. بموجب القانون الدولي، تتمتع هذه “الحكومة العسكرية” بسلطة بموجب قانون الاحتلال الحربي وتحكمها مجموعة من قواعد المعاهدات والقانون الدولي العرفي، بحيث يحتفظ الطرف القائم بالاحتلال بموجبها بالسلطات والصلاحيات الممنوحة له دوليا فقط. وبالتالي يمكن النظر إلى المحتل على أنه نوع من الوصي بصلاحيات محدودة للغاية. ذلك أن القانون الدولي، إذا جاز التعبير، هو وحده مصدر كافة السلطات، ويسعى لتقسيم الصلاحيات بشكل عادل. وهكذا، فإن اتفاقيات مثل اتفاق أوسلو لا بد إذن وأن تتوافق، من حيث المبدأ، مع قانون الاحتلال الحربي.
رابعا: تقسيم السلطة بين حكومتين مستقلتين داخل دولة واحدة:
تمتد هذه الرؤية إلى الأرض ككل، وهي رؤية “أرض واحدة” بدلاً من “دولة واحدة”. تصبح “دولتان” لهما أشكال متنوعة، بمعنى “الأرض للجميع”، ولكل منهما سلطة وكيان مختلف، ولا تتمتع أي حكومة منهما “بحميع السلطات” دفعة واحدة. بل من خلال التفاوض المتكافئ، والذي بموجبه سيتم توزيع تلك الوظائف والسلطات الحكومية وتفويضها بطريقة طموحة وعادلة.
دولتان، تدويل، دولة إثنوقراطية واحدة، أرض واحدة لدولتين: هذه مثلت العديد من الرؤى والسيناربوهات لعقود عديدة لهذا الصراع. ولكن يبقى التساؤل أي منها أكثر عدلاً؟ وأكثر واقعية وجدوى في المستقبل المنظور بدلاً من مجرد “اللامكان”؟ وماذا عن الرؤية الوحيدة للأرض التي لم تطرح في هذه الحالات: وهي الرؤية المتمثلة ب “دولة لجميع مواطنيها” موحدة ديمقراطية بين النهر والبحر؟ تم تقديم مثل هذا الاقتراح من قبل أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب. وكذلك، مؤخرًا، من قبل التيار الصهيوني الأمريكي الليبرالي البارز.
عندما تستمر هذه القضايا المعروضة على المحاكم الدولية، يجب أن نتوقع رؤية المزيد من التفاصيل حول هذه الأفكار، حتى لو كانت مختبئة تحت الحجج القانونية التقنية. ولكنه يجب الإشارة إلى أنه وبعد كل شيء، سيناريو الحل للقدس (وكذلك الواقع المرير) متواصل لفترة طويلة جدًا. ولذلك ليس أمام الناس و”الشعوب” بديل سوى الاستمرار في النضال.