مبدأ العملة الذهبية Monetary Gold : ما هو وما علاقته بحالة فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
إعداد: ناصر ثابت*
مراجعة وتحرير: إحسان عادل
* لتحميل هذه المقالة في نسخة pdf للطباعة، انقر هنا
خلفية:
إن تحديد أي محكمة لولايتها القضائية في إطار ما يُعرض عليها من منازعات هو الركيزة الأساسية التي ستعتمد عليها كقاعدة وأساس للبت في المنازعة القائمة أمامها، فدون وجود ولاية قضائية، تكون المحكمة غير مختصة، سواءً كان ذلك على صعيد المحاكم الوطنية أو الدولية.
وفي ضوء تعدد وتعارض المصالح المتنازع عليها والمطروحة أمام المحاكم الدولية بشكل خاص، اُستحدثَ مبدأ قضائي عرف باسم مبدأ العملة الذهبية (أو الذهب النقدي Monetary Gold Principle)، والذي غايته غل يد هذه المحاكم عن ممارسة ولايتها القضائية فيما يعرض عليها من منازعات، وذلك بسبب تشابك المصالح بين الدول الأطراف في الخصومة مع مصالح دولة ليست في الواقع طرفاً في النزاع المعروض على المحكمة.
فما هو مبدأ العملة الذهبية ؟ ومتى ظهر وكيف طُبق ؟ وما علاقة هذا المبدأ بحالة فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية وكيف تم استخدامه لعرقلة المحكمة عن ممارسة اختصاصها في فلسطين؟ وبماذا ردت المحكمة على ذلك؟
- ما هو مبدأ العملة الذهبية / الذهب النقدي (The Monetary Gold Principle)؟
يمكن تعريف مبدأ العملة الذهبية بأنه قاعدة قانونية إجرائية أتت بالممارسة التاريخية عن محكمة العدل الدولية، ويعني أن المحاكم الدولية ليست مختصة بالفصل في النزاعات بين الدول إلا إذا وافقت تلك الدول على ممارسة الولاية القضائية على هذا النزاع من قبل المحكمة. وإذا ما تعلق البت في القضية بمصلحة طرف ثالث لم يكن ذو صلة في المنازعة، ولم يوافق على ممارسة المحكمة لاختصاصها عليها، تمتنع المحكمة حينئذ عن ممارسة اختصاصها، حتى لو قبلت الدول المتنازعة باختصاص المحكمة في فض النزاع.©
- متى ظهر مبدأ العملة الذهبية؟
بَرز مبدأ العملة الذهبية لأول مرة في حُكم محكمة العدل الدولية في قضية إيطاليا ضد كل من فرنسا، المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية، والولايات المتحدة الأمريكية في عام 1954. يعود أصل القضية إلى أن الألمان كانوا أخذوا كمية من العملة الذهبية/الذهب النقدي من روما عاصمة إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية، تحديداً عام 1943. وُجد هذا الذهب لاحقًا في ألمانيا، وتبين أن ملكيته تعود إلى ألبانيا.
بعد الحرب العالمية الثانية، تم تشكيل لجنة تعويضات ولجنة إعادة العملة الذهبية المنبثقة عن اتفاقية التعويضات من ألمانيا، وفيها تم الاتفاق على أنه يجب تجميع العملة الذهبية الموجودة في ألمانيا لتوزيعها بين الدول المتضررة، والتي يحق لها الحصول على حصة منها.
على ضوء هذه الاتفاقية، كان هناك ادعاءان بخصوص من له الأحقية في الحصول على هذا الذهب:
– فمن ناحية، ادعت المملكة المتحدة أنه يجب تسليم الذهب إليها في تلبية جزئية لحكم قضائي عام 1949 في قضية قناة كورفو.[1]
– وفي المقابل، ادعت إيطاليا أنه يجب تسليم الذهب إليها كتعويض جزئي عن الضرر الذي زعمت أنها تعرضت له نتيجة لقانون ألباني صدر في 13 يناير 1945.
ثم وفي بيان واشنطن الصادر في 25 أبريل 1951، أعلنت حكومات فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي كان عُهد إليها تنفيذ اتفاقية التعويضات الموقعة عام 1946، أنه ينبغي تسليم الذهب إلى المملكة المتحدة، ما لم تقدم إيطاليا أو ألبانيا، في غضون مدة معينة، طلبا إلى محكمة العدل الدولية للفصل في حقوق كل منهما. لم تقم ألبانيا إثر ذلك باتخاذ أي إجراء، لكن إيطاليا رفعت دعويين قضائيتين أمام محكمة العدل الدولية للتأكيد على أحقيتها بالذهب، حيث خاصمت كلا من فرنسا، المملكة المتحدة وايرلندا الشمالية، والولايات المتحدة الأمريكية. في القضية الأولى، ادعت إيطاليا أن “ثلاث دول يجب أن تسلم إيطاليا الذهب الذي قد يكون مستحقًا لألبانيا”؛ وكان الادعاء الآخر بأن “حق إيطاليا في الحصول على الذهب يجب أن يكون له الأولوية على مطالبة المملكة المتحدة بالذهب”. ومع ذلك، أثارت إيطاليا سؤالا يتعلق بمسألة أولية، حول ما إذا كان للمحكمة أصلا اختصاص للفصل في دعواها، في ظل أن ألبانيا ليست طرفا في القضية.
وقد خلصت المحكمة، في حكمها الصادر في 15 حزيران/ يونيو 1954، إلى أنها لا تستطيع، دون موافقة ألبانيا (الطرف الثالث)، الفصل في ادعاء إيطاليا فيما يخص ألبانيا ومدى مسؤوليتها عن إلحاق الضرر بإيطاليا، وبالتالي أحقيتها في استلام الذهب الألباني. وعليه، رأت المحكمة أنها لن تكون قادرة بالتالي على البت في المسائل المعروضة ككل. وهو الأمر الذي يتماشى مع مبدأ آخر في القانون الدولي العام وهو مبدأ الموافقة (The consent principle) الذي يقول بأنه لا يمكن للمحاكم الدولية ممارسة الولاية القضائية على دولة ما إلا بموافقتها.
وبناءً على ذلك، نجد أن هذا المبدأ قد أخذ اسمه من هذه القضية التي عرضت على محكمة العدل الدولية، وقد تكرر استخدامه في عدد من القضايا أمام مجموعة من المحاكم الدولية وحتى في غير محكمة العدل الدولية المنشئة له.
- ما هي الحالات التي تطرقت لمبدأ الذهب النقدي/ العملة الذهبية وماذا كان موقف المحكمة في القضايا التي تمت إثارته فيها؟
اختلفت أحكام المحاكم الدولية في الأخذ بمبدأ الذهب النقدي كقاعدة قانونية تغل يد المحكمة من الاستمرار في النظر في القضية لوجود مصلحة طرف خارج الدعوى سوف يؤثر حكمها عليه إن استمرت في النظر في القضية، فقد طُبق المبدأ بشكل نادر في إطار بعض الحالات التي نُظرت أمام المحاكم الدولية، ورُفض تطبيقه في حالات أخرى، وهي المعظم، وذلك لعدم وجود حالة حقيقة لانطباقه في القضية المعروضة، وفق توصيف المحاكم.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
في محكمة العدل الدولية (2 قبول 3 رفض):
– كما ذكرنا، بدأ تطبيق هذا المبدأ عملياً في محكمة العدل الدولية المـُؤسسةَ لهذا المبدأ في قضية العملة الذهبية المأخوذة من روما، عام 1954، وقررت المحكمة الأخذ بهذا المبدأ لوجود مصلحة لألبانيا (الطرف الثالث) غير المنضمة في هذه القضية، حيث رأت أن المصالح القانونية لدولة ألبانيا، التي ليست طرفًا في النزاع، لا تقتصر على الإجراءات فقط من خلال القرار الذي سوف يُتخذ، بل ستشكل مصالحها موضوع القرار ذاته.
– كما تم الإشارة لهذا المبدأ في حكم المحكمة الصادر في قضية نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية في إطار الفقرة 88 والمقامة عام 1984، والتي كانت على خلفية النزاع المتعلق بالمسؤولية عن الأنشطة الأمريكية العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا. وهنا، قررت العدل الدولية عدم صلاحية هذا المبدأ للاستخدام، حيث اعتبرت أن الدول الأخرى التي ترى أنها قد تتضرر لها الحرية في رفع دعاوى منفصلة، أو استخدام إجراء التدخل لحماية مصالحها المتوقع أن يمسها القرار، ورأت أنه لا يمكن اعتبار أي دولة من الدول المشار إليها في لائحة الدعوى في نفس موقف ألبانيا في قضية العملة الذهبية.
– وكذلك في قرار المحكمة الصادر بخصوص قضية أراضي الفوسفات بين كل من جمهورية ناورو وأستراليا عام 1992. وفي هذه القضية، وجدت المحكمة بأن المبدأ غير قابل للتطبيق، حيث رأت أنه في حالة الحكم عام 1954، كان تحديد مسؤولية ألبانيا، الغائبة عن النزاع، شرطًا مسبقًا لإصدار حكم بين الأطراف الحاضرة. بينما إن تحديد مسؤولية نيوزيلندا أو المملكة المتحدة في هذا النزاع بين ناورو وأستراليا ليست شرطا مسبقا لتحديد مسؤولية أستراليا، كما وجدت المحكمة أن مصالح نيوزلندا والمملكة المتحدة لا تشكلان موضوع القضية الأساسي.
– كما تمت الإشارة إلى المبدأ في حكم المحكمة الصادر عام 1995 بقضية تيمور الشرقية، إبان نظرها للدعوى المقامة في النزاع بين البرتغال وأستراليا، حول مسألة بسط السيادة على إقليم تيمور الشرقية. وفي هذا الحكم، أخذت المحكمة بهذا المبدأ نظراً لوجود مصلحة لسكان إقليم تيمور الشرقية ذاته، والذين لم يتم إدخالهم في القضية، إضافةً الى أنه كان على المحكمة أن تحكم، كشرط مسبق، بشأن شرعية حيازة إندونيسيا لتيمور الشرقية، والتي لم تكن طرفاً في القضية.
– كما تعاملت المحكمة مع هذا المبدأ في إطار حكمها الصادر عام 1998 في قضية الحدود البرية والبحرية بين الكاميرون ونيجيريا. – الفقرة 79. حيث ثار نزاع بين الدولتين بعدما أُودعت الكاميرون طلباً لدى المحكمة لإقامة دعوى ضد نيجيريا فيما يتعلق بمسألة السيادة على شبه جزيرة باكاسي، وطلبت أيضاً من المحكمة تحديد مسار الحدود البحرية بين الدولتين. وهنا، رفضت المحكمة تطبيق مبدأ العملة الذهبية، حيث وجدت أن المصالح القانونية لدولة تشاد “وكانت طرفا ثالثا ليس ذو صلة في النزاع” في القضية لا تشكل نفس موضوع الحكم الذي سيتم إصداره فيما بينه الكاميرون ونيجيريا، وبالتالي رأت أن غياب دولة تشاد لا يمنع المحكمة من المضي في تحديد الحدود بين الكاميرون ونيجيريا في شبه جزيرة باكاسي.
محكمة التحكيم الدائمة (1 قبول 1 رفض):
-ظَهر استعمال هذا المبدأ أيضاً خارج نطاق محكمة العدل الدولية، وذلك في إطار القضايا المعروضة على محكمة التحكيم الدائمة، وذلك في قضيتين:
– الأولى عندما نظرت المحكمة في قضية لارسن ضد مملكة هاوي في عام 2001، حيث أشارت له في حكمها ضمن الفقرات من 11.1 حتى 11.24. في هذه القضية، سعى أحد سكان هاواي للحصول على تعويض من “مملكة هاواي” لفشلها في حمايته من الولايات المتحدة وولاية هاواي. وأعرب الطرفان، اللذان اتفقا على إحالة نزاعهما إلى التحكيم، عن أملهما في أن تتناول المحكمة مسألة الوضع القانوني لهاواي. وجادل الطرفان بأن مبدأ العملة الذهبية يجب أن يقتصر على الإجراءات في محكمة العدل الدولية دون غيرها من المحاكم الدولية. لكن المحكمة قضت بتطبيق المبدأ، ورفضت حجة الأطراف، مشيرة إلى أن هيئات التحكيم الدولية “تعمل ضمن الحدود العامة للقانون الدولي العام”، وعليه، لا يمكنها ممارسة الولاية القضائية على دولة ليست طرفًا في إجراءاتها، حيث أن الولايات المتحدة، التي كانت غائبة، كانت طرفًا لا غنى عنه، وإن مصالحها ستشكل “الموضوع ذاته” لقرار المحكمة.
– كما تعاملت محكمة التحكيم الدائمة مع هذا المبدأ في حكمها الصادر عام 2016 بقضية التحكيم في بحر الصين الجنوبي بين كل من الفلبين والصين في فقرات حكمها 640 و641، وذلك على خلفية النزاع بين الطرفين بشأن الأساس القانوني للملاحة البحرية والحقوق والاستحقاقات في بحر الصين الجنوبي. وهنا، قضت المحكمة باختصاصها في القضية وعدم وجود أي مبرر للعمل بمبدأ العملة الذهبية، حيث اعتبرت أن مصالح (الطرف الثالث)، وهما ماليزيا وفيتنام، لن تتضرر. وقالت المحكمة بأنه “بقدر ما بحثت مطالب الصين (والتي تطالب بها ماليزيا وفيتنام أيضًا) لأغراض تقييم الحالة المحتملة للصين في المناطق التي لا تطالب ماليزيا وفيتنام بها، فإن المصالح القانونية لماليزيا وفيتنام لا تفعل ذلك [أي لا تشكل موضوع النزاع ذاته]”.
المحكمة الدولية لقانون للبحار (0 قبول 1 رفض):
كذلك تعرضت المحكمة الدولية لقانون للبحار لهذا المبدأ في حكمها الصادر عام 2016 في (قضية السفينة أم في نورستار- Norstar Case M/V )، على ضوء المنازعة التي قامت بين كل من دولة بنما وإيطاليا، والتي جاءت على خلفية اعتقال واحتجاز إيطاليا لناقلة نفط إم في نورستار، وهي ناقلة نفط مسجلة تحت علم بنما. ففي الفقرتين 156 و 172 من حكمها، رفضت المحكمة انطباق مبدأ العملة الذهبية، والذي كانت أشارت إليه إيطاليا لدعم حجتها، حيث قالت بأن الأمر الصادر باحتجاز السفينة قد صدر عن إيطاليا لإسبانيا، وليس عن إسبانيا، حيث أن إيطاليا هي من كانت طلبت من إسبانيا الاستيلاء على السفينة المسجلة تحت اسم بنما، وجادلت إيطاليا بأن إسبانيا طرف لا غنه عنه لمنع المحكمة من ممارسة اختصاصها. لكن المحكمة أكدت بأنها ذات اختصاص طالما أن القرار لا يتطلب تحديد مشروعية سلوك إسبانيا.
لجنة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية (0 قبول 1 رفض):
ذُكر هذا المبدأ كذلك أمام لجنة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية في معرض نظرها في قضية القيود المفروضة على استيراد المنسوجات والملابس – تركيا، حيث تناولته في إطار الفقرة 9.10 من حكمها الصادر عام 1999، حول قيام تركيا بفرض مجموعة من القيود على مجموعة واسعة من منتجات المنسوجات والملابس الواردة من الهند. وقالت لجنة تسوية المنازعات إن المجتمعات الأوروبية (الطرف الثالث) لم تكن طرفًا أساسيًا في هذا النزاع المعروض على اللجنة، وعليه لا يمكن التسليم بتفعيل هذا المبدأ أمام المحكمة.
- متى ظهر مبدأ العملة الذهبية/الذهب النقدي في إطار المحكمة الجنائية الدولية – حالة فلسطين ؟
ظهرت الإشارة الأولى لمبدأ العملة الذهبية في المحكمة الجنائية الدولية في “حالة فلسطين” المنظورة أمام المحكمة. وبشكل محدد في إطار طلب المدعية العامة بموجب المادة 19 (3) من ميثاق روما من الدائرة التمهيدية إصدار حكم بشأن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين، ثم ورد في معرض الإدخالات والمذكرات التي قًدمت أمام الدائرة التمهيدية في ضوء الرد على الطلب المقدم من قبل مكتب المدعية العامة للدائرة. ثم تناولته الدائرة التمهيدية في قرارها أخيرا، والذي صدر في 5 شباط/فبراير 2021 بشأن اختصاص المحكمة الإقليمي في الوضع في فلسطين.
ويعود السبب في بروز هذا المبدأ في قضية فلسطين المعروضة أمام المحكمة، إلى أن المحكمة، في حال مارست اختصاصها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنها سوف تتعرض لمسائل وجرائم تتعلق بإسرائيل، والتي هي ليست طرفا في المحكمة، وليست موافقة على اختصاص المحكمة في هذا الأمر. وهكذا، فقد أثير دفع أمام المحكمة بأن مسألة الولاية الإقليمية للمحكمة في الحالة في فلسطين لا يجوز فحصها من قبل المحكمة، لأن هذا الفحص سيتم دون مشاركة أحد أصحاب المصلحة الرئيسيين – إسرائيل – وهو يؤثر بشكل مباشر على سيادتها الإقليمية.
وفيما يلي تفصيل هذه المسألة وكيف وردت في نطاق عمل المحكمة على قضية فلسطين بشكل كامل:
- في الطلب المقدم من المدعية العامة: تمت الإشارة الأولى للمبدأ في الطلب المقدم من قبل (المدعية العامة) للدائرة التمهيدية الأولى بتاريخ 22- يناير- 2020، وذلك في إطار الهامش رقم 60 (على الفقرة 35)، والذي تقدمت به المدعية العامة بموجب المادة 19 (3) من ميثاق روما، من أجل إصدار حكم بشأن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين. وبهذا الخصوص، قالت المدعية العامة للمحكمة إنها ترى عدم وجود أي امكانية لانطباق مبدأ العملة الذهبية أمام المحكمة الجنائية الدولية لعدد من الأسباب، وهي:
أولاً: أن المحكمة الجنائية الدولية لا تقوم بالفصل في المنازعات بين الدول بل تبحث في المسؤولية الجنائية للأفراد.
ثانياً: أن المحكمة غير مسؤولة عن حل نزاع إقليمي أو تحديد صاحب سند قانوني (السيادة) ساري المفعول على الأرض الفلسطينية المحتلة.
ثالثاً: إن تطبيق مبدأ العملة الذهبية يمنع المحكمة من ممارسة الولاية القضائية على رعايا الدول غير الأعضاء الذين قد يرتكبون جرائم على أراضي دولة عضو. مضيفةً بأن هذه المسألة نوقشت من قبل الدول في مؤتمر روما الذي رفض صراحة مثل هذا النهج (تطبيق مبدأ العملة الذهبية) على نظام روما الأساسي لغلّ يد المحكمة من البحث في الجرائم التي تُرتكب على أراضي دولة طرف.
المحكمة الجنائية الدولية لا تقوم بالفصل في المنازعات بين الدول بل تبحث في المسؤولية الجنائية للأفراد
رابعاً: حتى مع افتراض قابلية تطبيق هذا المبدأ أمام المحكمة الجنائية الدولية، فإن هناك استثناء ذكرته محكمة التحكيم الدائمة في إطار معالجتها لقضية لارسن ضد مملكة لاهاي، ويتمثل في أنه يمكن عدم الأخذ بمبدأ العملة الذهبية، حتى مع وجود طرف ثالث غير ممثَّل، في حال كان من الممكن استخلاص الوضع القانوني المتعلق به (على سبيل المثال، من خلال قرار رسمي صادر عن مجلس الأمن). وفي حين أن المحكمة المذكورة لم تجد أن هذا الاستثناء ينطبق على قضية لارسن، رأت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية أن هذا الاستثناء ينطبق على فلسطين، حيث كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن أكدا مرارًا وتكرارًا على عدم الاعتراف بالوضع الناجم عن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وطالبت إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
- في المذكرات (إدخالات أصدقاء المحكمة):
- تمت الإشارة إلى هذا المبدأ في الإدخال المقدم بتاريخ 15- مارس – 2020 من قبل (وليام شاباس) في إطار الفقرة 27، وذلك في إطار الرد على ادعاء أن المحكمة الجنائية الدولية غير مؤهلة على الإطلاق لمعالجة قضايا الحدود. حيث قال شاباس إنه قد يُطلب من المحاكم الجنائية الوطنية، بما في ذلك محاكم إسرائيل، تحديد نطاق أراضي الدول، لأغراض تحديد الولاية الإقليمية لتلك المحاكم، وهم حين يفعلون ذلك، فإنهم لا يفصلون في نزاع إقليمي، لكنهم ببساطة يرسمون الحدود، بقدر ما يكون ذلك ممكنًا. وعليه، قال شاباس: إن هذا الإجراء المتخذ لا يمنع المحكمة الجنائية الوطنية من تحديد مدى المنطقة التي سوف تمارس عليها اختصاصها، فلماذا يجب أن تكون مختلفة في المحكمة الجنائية الدولية؟
- ورد هذا المبدأ أيضاً في الإدخال المقدم بتاريخ 15- مارس – 2020 من قبل (نقابة المحامين الفلسطينيين – د. معتز قفيشة) في إطار الفقرة 48، حيث عبرت في مذكرتها قائلة “إن إسرائيل أخطأت في أن المحكمة الجنائية الدولية لن تستطيع النظر في حالة الأراضي الفلسطينية وفقا لمبدأ الذهب النقدي، استنادًا الى أن مسألة الحدود تُركت لمفاوضات الوضع الدائم بموجب اتفاقات أوسلو”. وأضافت بأن هذا الادعاء غير صحيح لأن المحكمة الجنائية الدولية لن تحدد حدود فلسطين بنفسها، لكنها ستفصل في أراضي دولة [هي فلسطين] ذات حدود محددة مسبقًا.
- كما تم الاستناد إلى هذا المبدأ في الإدخال المقدم بتاريخ 16- مارس – 2020 من قبل مجموعة من الأكاديميين وهم (لوري بلانك، ماتيس دي بلوا، جيفري كورن، دافني ريشموند باراك، جريجوري روز ،روبي سابيل، جيل تروي، أندرو تاكر) في الفقرات من 30 – 32، حيث اعتبروا “بأن مصالح إسرائيل ستتأثر بشكل حيوي من خلال تحديد الحدود الإقليمية. وبالتالي لا يمكن للمحكمة أن تتخذ أي قرار من هذا القبيل في غياب إسرائيل كطرف ثالث متأثر بشكل مباشر عن هذا الاجراء المتخذ أمام المحكمة”. واستند الأكاديميون المذكورون إلى مبدأ العملة الذهبية للقول بأن المحكمة الجنائية الدولية بالتالي لا يمكنها ممارسة الولاية القضائية لتحديد المسائل التي تشكل فيها مصالح الأطراف الثالثة “موضوع القرار ذاته”، مشيرين إلى أن المحكمة الجنائية الدولية ليست منتدى للنزاعات بين الدول ولا يُطلب منها حل نزاع إقليمي. وأوضح الأكاديميون أن الدائرة التمهيدية للمحكمة، ومن أجل تحديد (الأراضي الفلسطينية)، عليها أن تحدد أن فلسطين صاحبة السيادة على الصفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وهو ما يتطلّب إقراراً واضحا بذلك من إسرائيل، ما يعني أن الحقوق الإقليمية السيادية لإسرائيل ستشكل حتماً “موضوع القرار ذاته”.
- كما تم التعرض للمبدأ في الإدخال المقدم بتاريخ 16- مارس-2020 لكل من روبرت هينش وجوليا بينزوتي، وذلك في الفقرة 3، حيث رأيا أن الحجج التي تشير إلى “مبدأ العملة الذهبية “تساهم في منع المحكمة من ممارسة اختصاصها”، وهي بالتالي غير مناسبة ليتم تطبيقها، لا سيما أن هذه القاعدة تنطبق في سياق الإجراءات المتخذة بين الدول، فيما إن الإجراءات المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية تتعلق بالمسؤولية الجنائية الخاصة بالأفراد.
الحجج التي تشير إلى مبدأ العملة الذهبية تساهم في منع المحكمة من ممارسة اختصاصها
- وأخيرا، تم الاستناد إلى هذا المبدأ في الإدخال المقدم بتاريخ 20-مارس- 2020، من قبل (مؤسسة إسرائيل للأبد) في الفقرة 65، حيث رأت المؤسسة أنه وبالاستناد لهذا المبدأ يجب غل يد المحكمة عن ممارسة اختصاصها القضائي في النظر بالحالة الفلسطينية، حيث قالت بـ(أنه لا ينبغي للمحاكم أن تقرر في القضايا المعروضة أمامها والتي تؤثر بشكل كبير على المصالح القانونية لدولة غير مشاركة في الإجراءات أمامها امتثالاً لقواعد القانون الدولي ولا سيما التي أقرتها محكمة العدل الدولية).
- كيف تعاملت المدعية العامة مع هذا المبدأ وكيف ردت على الإدخالات/المذكرات؟
في مذكرتها التي جاءت في إطار ردها على الإدخالات والمذكرات الخاصة بأصدقاء المحكمة والممثلين القانونيين للضحايا والدول بتاريخ 30 – ابريل- 2020، تناولت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، مسألة مبدأ العملة الذهبية في الفقرات من 31- 39. وأكدت على موقفها السابق بأن المبدأ لا يمكن أن ينطبق على المحكمة الجنائية الدولية، لأن المسؤولية الدولية أو القانونية في سلوك دولة غير طرف لا يمكن أبدا أن يشكل (الموضوع ذاته) في إجراءات المحكمة. وأكدت المدعية العامة للمحكمة على التالي:
أولاً: أن وجود هذه القاعدة يكمن في صميم تفويض محكمة العدل الدولية للفصل في المنازعات القائمة بين الدول لتقرير مسؤوليتهم الدولية عن سلوكهم بشرط أن توافق الدول على المحكمة كحكم فيما بينهم. لكن هذا يختلف عن الدور الذي تقوم به المحكمة الجنائية الدولية المكلفة بالفصل بالمسؤولية الجنائية الفردية للأشخاص دون التأثير على مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي.
ثانياً: أكدت المدعية العامة أن السوابق القضائية لمحكمة العدل الدولية تؤكد أن هذا المبدأ قد تم تطبيقه فقط حينما تم الطلب من المحكمة أن تحكم في المسؤولية الدولية عن سلوك دولة طرف ثالثة لم تكن طرفا في الإجراءات المتعلقة بالفصل في النزاع. وأشارت إلى أن هذا المبدأ لا يُطبق إلا إذا كانت المصالح القانونية للدولة الثالثة لن تتأثر بقرار ما فحسب، بل ستشكل محلا للنزاع في القرار ذاته.
ثالثاً: في حال تم تطبيق المبدأ، فإن ذلك سيجعل الصياغة الموجودة في مثياق روما، والتي تسمح للمحكمة بالتحقيق ومحاكمة مواطني الدول غير الأطراف، بغض النظر عن صفتهم الرسمية، على أراضي دولة طرف، لا معنى له.
رابعاً: قرار المحكمة بخصوص طلب المدعية العامة تحديد الاختصاص الإقليمي للمحكمة لن يحدد سوى المنطقة الإقليمية التي يجوز للمدعية العامة وفريقها أن يجري التحقيق في الجرائم المزعومة فيها، وبالتالي فهو ليس أكثر من وسيط للغرض النهائي للمحكمة، وهو الفصل المستقبلي في المسؤولية الجنائية لشخص واحد أو أكثر بمجرد تقديم الادعاء وتأكيد التهم الموجهة بحقهم.
خامساً: أوضحت المدعية العامة أن الممارسة القضائية لمحكمة العدل الدولية ذاتها في ظروف مماثلة تؤكد أنه يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تبت في الأمور الناشئة عن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة دون تحديد الحدود المتنازع عليها ما بين فلسطين وإسرائيل، تماماً مثل الرأي الاستشاري الذي قدمته محكمة العدل الدولية في قضية الجدار. وكذلك القرارات التي أُخذت من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي مفادها أن المستوطنات الإسرائيلية على الاراضي الفلسطينية بما فيها “القدس الشرقية” قد أُنشئت بشكل مخالف للقانون الدولي.
- كيف تعاملت الدائرة التمهيدية مع هذا المبدأ عند حكمها بشأن الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين؟
تعرضت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية لمبدأ العملة الذهبية في قرارها الصادر بتاريخ 5 – فبراير – 2021، وتحديداُ في الفقرات من 58 حتى 60، بشأن الطلب المقدم من قبل مكتب المدعية العامة عملاً بالمادة (19/3) لإصدار حكم بشأن الولاية القضائية الإقليمية للمحكمة في فلسطين. وتضمن قرار الدائرة التمهيدية عدم وجود إمكانية لانطباق هذا المبدأ على الحالة في فلسطين.
وقد استندت الدائرة التمهيدية في قرارها بعدم تفعيل مبدأ العملة الذهبية الى أنه لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تحكم في النزاعات بين الدول، لأنها لا تتمتع بسلطة قضائية على الدول، لكنها تمارس اختصاصها على الأشخاص الطبيعيين فقط. كما لفتت الدائرة إلى أنه تمت دعوة إسرائيل تقديم مذكرة بخصوص الإجراءات المتخذة من المحكمة، اختارت عدم الاستفادة من تلك الفرصة.
وأضافت الدائرة، بأن قرارها الحالي بخصوص اختصاص المحكمة يقتصر بشكل صارم على مسألة الاختصاص القضائي المنصوص عليه في طلب المدعية العامة، ولا ينطوي على أي قرار بشأن النزاعات الحدودية بين فلسطين وإسرائيل. وبالتالي، لا يجوز تفسير القرار الحالي على أنه تحديد أو تحيز أو تأثير أو تأثر بأي شكل آخر على أي مسألة قانونية أخرى ناشئة عن الأحداث في الوضع في فلسطين سواء بموجب النظام الأساسي أو أي مجال آخر من مجالات القانون الدولي.
الخلاصة
من كل ما تقدم، نجد أن نطاقات تطبيق مبدأ الذهب النقدي / العملة الذهبية قد نشأت في ظروف المنازعات القائمة بين الدول، وأن المحاكم مالت إلى الأخذ به فقط في حالة أن مصالح الأطراف الثالثة، الغائبة عن المنازعة، سوف تشكل “موضوع قرار المحكمة ذاته”، وليس باعتبارها أثرا من آثاره.
وعليه، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية ومكتب ادعائها العام في معرض نظرهم لحالة فلسطين، قد رفضوا تماما تطبيق هذا المبدأ عبر التأكيد على أن طبيعة المسؤولية المنظورة أمام المحكمة، هي مسؤولية أفراد وليست دول، إضافةً الى التأكيد على أن قرارها إنما يختص بنظر الجرائم المرتكبة على إقليم دولة طرف، دون البت في النزاعات الحدودية القائمة بين فلسطين وإسرائيل، ولا يجوز تفسير قراراها أبعد من ذلك.
—-
[1] – قضية قناة كورفو: هي أول قضية قانونية دولية عُرضت أمام محكمة العدل الدولية في عام 1947 بين المملكة المتحدة وجمهورية ألبانيا الشعبية، رفعتها المملكة المتحدة للمطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بها من سلسلة الحوادث التي تسببت بها ألبانيا في قناة كورفو، والتي لم تحصل على التعويض منها. وكان تقرر في اتفاقية واشنطن أنه اذا حُكم لصالح ألبانيا بالعملة الذهبية على إيطاليا، سوف تأخذ المملكة المتحدة حقها بالتعويضات من ما تحصل عليه ألبانيا.
—
* ناصر ثابت باحث قانوني ومنسق فريق البحث والدراسات في منظمة القانون من أجل فلسطين، حاصل على المركز الأول في مسابقة البحث العلمي في الجامعات الفلسطينية. يحمل ثابت درجة البكالوريوس في القانون، كتب العديد من الأوراق والمقالات القانونية في القانون الدولي.