عام على صعود القانون الدولي في أوكرانيا وسقوطه في فلسطين: ما بعد اللوم
إعداد: حسان بن عمران، إحسان عادل، وديع العرابيد
* لتحميل المقال بنسخة pdf، انقر/ي هنا
مقدمة
“تخيل أن ما يحصل في أوكرانيا يحصل في فلسطين، وتخيّلِ أن روسيا هي الولايات المتحدة” بكلمات ساخرة، علق وزير الخارجية الروسي ، سيرجي لافروف ، مشددًا على ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع حرب أوكرانيا مقارنة بحالات أخرى مماثلة. وكأن لسان حاله يقول: لماذا تحاسبوننا على عدواننا طالما لا تحاسبون حلفائكم على عدوانهم!؟
منذ عام بالضبط، وتحديدا بتاريخ 24 شباط/فبراير أعلنت روسيا بدء عملية عسكرية واسعة النطاق للسيطرة على الأراضي الأوكرانية، وما تزال المعارك جارية حتى هذه اللحظة.
تلا شن العملية العسكرية من جانب روسيا إدانات واسعة من جانب العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، تبعها بشكل فوري تنفيذ مجموعة واسعة من العقوبات الاقتصادية ضد الاتحاد الروسي، وذلك تزامنًا مع تقديم الدعم والعتاد العسكري للجيش الأوكراني، ودعت إلى حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد الاحتلال الروسي حسب القانون الدولي، كما طالبت بانهاء الاحتلال فورًا. سارعت الجمعيات القانونية في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية إلى إدانة الإجراءات الروسية، متخلية عن سياستها القديمة المتمثلة في عدم الانخراط في القضايا الحساسة سياسياً. مثل الغزو الأمريكي الأحادي الجانب للعراق المخالف لنظام الأمن الجماعي للأمم المتحدة
للتأطير: فإن كلا الحالتين (فلسطين وأوكرانيا) تقعان تحت الاحتلال، وشهدت كل منهما، بحسب العديد من الجهات الرسمية والفقهاء القانونيين، جرائم دولية مختلفة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. الأمر الذي يتطلب جهودًا أكبر من المجتمع الدولي لتحقيق العدالة وفرض القانون الدولي بشكل عادل.
ومع ذلك، تخضع الأراضي الفلسطينية المحتلة للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، ويرافق مدة هذا الاحتلال، عدد لا يحصى من قرارات الامم المتحدة، بما في ذلك 242 و 2334 (2016) المشيرة الى فلسطين كأرض محتلة تخضع للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان و المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، أو على الأقل التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وغني عن القول، أن هذه القرارات على ما يبدو قد تجاوزت اهتمام إسرائيل وحلفائها الأقوياء، وحرمت الفلسطينيين من حق تقرير المصير أو الدفاع عن النفس.
يسلط هذا المقال الضوء على المعايير المزدوجة للدول الغربية في أنماط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكيف تؤثر سلبًا على نظام القانون الدولي. ثم نناقش سبل فلسطين للمضي قدماً للتغلب على الظلم الناتج من السلوكيات والهيكليات المجحفة التي يتعرض لها شعبها.
“جميع الحيوانات متساوية، ولكن بعض الحيوانات متساوية أكثر من الأخرى“
مقارنة سريعة بين تصويت الدول الغربية في الجمعية العامّة للأمم المتحدة في الحالة الأوكرانية والفلسطينية تذكرنا بأن مقولة “جورج أورويل” لم تكن مجرد كوميديا!
فكما يوضح الجدول 1 أدناه، هناك تباين شاسع وغير مفهوم بين تصويت الدول الغربية الكبرى (تحديدا الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واسبانيا وإيطاليا) في حالة أوكرانيا مقابل فلسطين. فنراهم مجمعين في الحالة الأولى على ادانة الغزو الروسيّ ودعم سيادة أوكرانيا ووحدتها الإقليمية، وفي ذات الوقت نراهم شبه مجمعين على حماية إسرائيل من المساءلة القانونية (سواء بالتصويت ضد، أو التنصل من المسؤولية عبر الامتناع عن التصويت) لنقل الملف أمام محكمة العدل الدولية -التي صوتوا جميعا لصالح تأسيسها عند تأسيس منظمة الأمم المتحدة.
الجدول1: التصويت في الحالة الأوكرانية
وكما يوضح الجدول 2 أدناه، من المثير للاستغراب أن عددا من الدول السبعة الكبرى الآنفة الذكر صوتت بالإجماع لصالح أوكرانيا ولم تصوت أي منها لصالح القرار المتعلق بفلسطين. وفي أحسن الحالات، قام بعضها بالامتناع عن التصويت (اسبانيا وفرنسا، والمملكة المتحدة التي امتنعت بداية ولكنها غيرت موقفها في القرار اللاحق بالتصويت السلبي). ومن اللافت أن أوكرانيا نفسها صوتت بداية مع القرار المتعلق بفلسطين (اجتماع اللجنة الرابعة) بينما غابت عن الجلسة التالية (الجمعية العامة).
الجدول 2: التصويت الأول في نوفمبر حول إحالة القضية لمحكمة العدل الدولية:
الجدول 3: التصويت الثاني فلسطين-محكمة العدل الدولية
بالرغم من أن هناك تحسناً (أو لعله انحسار للسوء) ملحوظاً في تصويت عدد من الدول الأوروبية التي اعتادت على التصويت لصالح إسرائيل عبر امتناعها عن التصويت هذه المرة، إلا أنه من المستغرب أن دولا مستضيفة للمؤسسات الدولية قامت بالامتناع!
فهولندا التي تستضيف محكمة العدل الدولية (التي يجري حولها التصويت) إضافة للمحكمة الجنائية الدولية، امتنعت، بدلا من التصويت لصالح تفويض المحكمة. وسويسرا التي تستضيف مجلس حقوق الانسان امتنعت، والنرويج والسويد اللتان تعبران صاحبتا نظرة أكثر تقدمية من النظرة الأوروبية التقليدية تجاه القضية والمؤسسات الدولية عموما امتنعتا عن التصويت كذلك. أربعة فقط من الدول الغربية المدرجة في (الجدول 4) كانت متسقة في نمط التصويت الخاص بها.
هولندا التي تستضيف محكمة العدل الدولية (التي يجري حولها التصويت) إضافة للمحكمة الجنائية الدولية، امتنعت، بدلا من التصويت لصالح تفويض المحكمة. وسويسرا التي تستضيف مجلس حقوق الانسان امتنعت
يلخص الجدول 4 التالي مفارقة عدد من أنماط تصويت الدول الغربية الأكثر انخراطًا في كلتا الحالتين: أوكرانيا وفلسطين.
الجدول 4: انماط التصويت لعدد من الدول الغربية بين الحالة الأوكرانية والفلسطينية
الدولة | تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة حول أوكرانيا (أكتوبر-2022) | التصويت الأولي للجمعية العامة للأمم المتحدة: فلسطين ومحكمة العدل الدولية (نوفمبر 2022) | تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة للمرة الثانية: فلسطين ومحكمة العدل الدولية (ديسمبر 2022) | |
1 | الولايات المتحدة الأمريكية | مع | ضد | ضد |
2 | كندا | مع | ضد | ضد |
3 | المملكة المتحدة | مع | ممتنع | ضد |
4 | المانيا | مع | ضد | ضد |
5 | فرنسا | مع | ممتنع | ممتنع |
6 | اسبانيا | مع | ممتنع | ممتنع |
7 | ايطاليا | مع | ضد | ضد |
8 | بولندا | مع | مع | مع |
9 | البرتغال | مع | مع | مع |
10 | هولندا | مع | ممتنع | ممتنع |
11 | يلجيكا | مع | مع | مع |
12 | النمسا | مع | ضد | ضد |
13 | سويسرا | مع | ممتنع | ممتنع |
14 | النرويج | مع | ممتنع | ممتنع |
15 | السويد | مع | ممتنع | ممتنع |
16 | فنلدنا | مع | ممتنع | ممتنع |
17 | الدنمارك | مع | ممتنع | ممتنع |
18 | اوكرانيا | مع | مع | غائب |
19 | ايرلندا | مع | مع | مع |
20 | استراليا | مع | ضد | ضد |
في المقابل، وبالنظر إلى نمط التصويت لعدد من الدول ذات التأثير النسبي خارج أوروبا وأمريكا الشمالة، هناك تناغم نسبي ملحوظ في التصويت بين الحالتين الأوكرانية والفلسطينية، مما يدعونا إلى افتراض أن تصويتهم كان قائمًا على المبادئ وليس منفعيياً، مع استثناء الدول المنخرطة إما بشكل مباشر أو شبه مباشر، او تتأثر بتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا مثل روسيا نفسها والصين والهند وباكستان.
الجدول 5: نمط التصويت للدول الأخرى في كلتا الحالتين:
الدولة | تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة حول أوكرانيا (أكتوبر-2022) | التصويت الأولي للجمعية العامة للأمم المتحدة: فلسطين ومحكمة العدل الدولية (نوفمبر 2022) | تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة للمرة الثانية: فلسطين ومحكمة العدل الدولية (ديسمبر 2022 | |
1 | البرازيل | مع | مع | ممتنع |
2 | روسيا | ضد | مع | مع |
3 | الهند | ممتنع | ممتنع | ممتنع |
4 | الصين | ممتنع | مع | مع |
5 | شمال افريقيا | ممتنع | مع | مع |
6 | تركيا | مع | مع | مع |
7 | اندونيسيا | مع | مع | مع |
8 | ماليزيا | مع | مع | مع |
9 | الباكستان | ممتنع | مع | مع |
10 | نيجيريا | مع | مع | مع |
11 | الجزائر | ممتنع | مع | مع |
12 | المغرب | مع | مع | مع |
13 | مصر | مع | مع | مع |
14 | السنغال | مع | مع | مع |
15 | الكاميرون | غائب | ممتنع | ممتنع |
16 | الارجنتين | مع | مع | مع |
17 | شيلي | مع | مع | مع |
18 | المكسيك | مع | مع | مع |
19 | تونس | مع | مع | مع |
20 | السعودية | مع | مع | مع |
21 | كوريا الجنوبية | مع | ممتنع | ممتنع |
22 | اليابان | مع | ممتنع | ممتنع |
بإلقاء نظرة على تصويت الدول الأفريقية فيما يتعلق بكلا التصويتين ، من الملاحظ تمامًا أن أحداً لم يصوت ضد قرار أوكرانيا في أكتوبر 2022 ، كما هو موضح أدناه (الرسم البياني 1). تطابقت انماط التصويت على القضية الفلسطينية، حيث صوت الجميع لصالح فلسطين باستنثاء كينيا وليبيريا فقط. وتجدر الإشارة هنا إلى التراث الغني للبلدان الأفريقية ومساهمتها في النظام القانوني الدولي في حقبة ما بعد الاستعمار؛ مثل البروتوكول الإضافي الأول، وإضفاء الشرعية على حركات التحرر الوطنية. هذا دور يجب أن يستمر!
الرسم البياني 1: تصويت الدول الأفريقية حول أوكرانيا في أكتوبر
تعزز المراجعة العامة لهذه الجداول الافتراض الجاد القائل بأن الدول بشكل عام، تحديدا الدول الغربية الكبرى (والدول السبعة آنفة الذكر على وجه الخصوص) تتعامل مع القانون الدولي ومؤسساته كأداة يمكن توظيفها في سياستهم الخارجية لا على أساس أنه قانون يجب إعلائه!
يد العدالة: تضرب بسرعة في أوكرانيا، وتتعالج فيزيائيا في فلسطين
“تأخير العدالة نوع من الظلم”: مقولة انعكست في سلوك كبرى الدول الغربية تجاه أوكرانيا.
فما لبثت روسيا وأن شنت حربها على أوكرانيا حتى أقر رئيس الولايات المتحدة جو بايدن بأن الاعتداءات الروسية ضد أوكرانيا تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من دون انتظار أي تحقيق موضوعي في هذا الشأن، كما اعتبر رئيس الوزراء الكندي أنه “من الصواب اعتبار ما ترتكبه روسيا إبادة جماعية”، كما دعمت بلجيكا الاستنتاج بأن ما ترتكبه روسيا يشكل جريمة حرب. وبالمثل، أدان أولاف شولتس، المستشار الألماني.
في المقابل، يبدو أن يد العدالة المعنية بفلسطين تعاني من الروماتزم.
فعلى الرغم من الإدانة الواسعة التي واجهها الاحتلال الإسرائيلي من منظمات عديدة أبرزها هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، بالإضافة إلى العديد من القرارت الدولية ولجان التحقيق التي استنتجت ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي لجرائم حرب وضد الإنسانية في فلسطين المحتلة، لم يتم إدانة إسرائيل من جانب الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة بالفصل العنصري أو العدوان، بل في حالات كثيرة قدمت هذه الدول لدعم المادي والعسكري لإسرائيل وسط استمرارها في جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. أبرز مثال على ذلك، الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، والذي يبلغ قدره 3.8 مليار دولار أميركي سنويًا والذي يمتد من عام 2017-2028.
يبدو أن يد العدالة المعنية بفلسطين تعاني من الروماتزم
بينما في الحالة الأوكرانية لم تستغرق الدول الأوروبية والولايات المتحدة أيامًا معدودة على بدء العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، حتى دعت المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية إلى فتح تحقيق بشأن الوضع في أوكرانيا، وفعلًا، وبتاريخ 2 مارس/آذار 2022، قرر المدعي العام فتح تحقيق ينصب تركيزه على “الجرائم المزعومة” التي ارتكبت في سياق الوضع في أوكرانيا منذ 21 تشرين الثاني / نوفمبر 2013. جاء قرار المدعي العام بفتح التحقيق على إثر طلب أكثر من 39 دولة، بما في ذلك جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا وأيسلندا ونيوزيلندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة، وقبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان الطلب دون أي انتظار أو تعليق. كما قام بزيارة أوكرانيا مرتين في أقل من عام، بينما أعلن مؤخرًا عن “نيته” زيارة فلسطين؛ التي توجهت للمحكمة لأول مرة في عام 2009 واستغرق الأمر 12 عامًا لإعلان الولاية القضائية على الأرض الفلسطينية المحتلة.
وقد لعبت التدخلات الدولية لعديدٍ من الدول أبرزها الولايات المتحدة دورًا أساسيا في عرقلة سير التحقيق في حالة فلسطين أمام المحكمة. ولحماية إسرائيل، بذلت إدارة ترامب على مدار عامين كاملين 2018-2020 جهودًا عديدة لإحباط مساعي المحكمة في المضي قدماً في تحقيقاتها. ففي يونيو/حزيران 2020، أصدرت أمرًا تنفيذيًا يتضمن عقوبات بتجميد أصول ومنع من السفر ضد اثنين من موظفي المحكمة الجنائية الدولية، هما المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة وفاكيسو موتشوتشوكو.
وحتى بعد أن ألغت الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن الأمر التنفيذي الذي صدر في عهد ترامب ضد موظفي المحكمة، أعلنت في تصريح لها “أنها لا تزال تعارض إجراءات المحكمة الجنائية الدولية في الوضعين الأفغاني والفلسطيني”، مؤكدة جهوزيتها لتقديم أي دعم للمحكمة في الحالة الأوكرانية!
وقدمت حكومة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التماسا للمحكمة الجنائية الدولية في فبراير 2020 لإقناع المدعية العامة بان اختصاص المحكمة لا يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وذهبت سبع دول -من بينها خمس دول غربية- وهي جمهورية التشيك والنمسا وأستراليا والمجر وألمانيا والبرازيل (تحت إدارة الرئيس السابق بولسونارو) وأوغندا، إلى حد الطعن في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، مدعية أن محكمة الجنايات الدولية تفتقر إلى الولاية القضائية للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
ولعل افتراض أن القانون الدولي ينفذ بسرعة حينما يتعلق الأمر بدولة صديقة للقوى العظمى وتحديدًا الدول السبع الغربية هو افتراض صحيح. ينعكس ذلك في تصريح بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، الذي عبر فيه “أن بلاده تعارض تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب في فلسطين”.. مضيفاً “أن اسرائيل ليست طرفا في نظام روما الأساسي وفلسطين ليست دولة ذات سيادة”، و”أن هذا التحقيق يعطى انطباعا بأنه هجوم جزئي ومُحيّر على صديق وحليف للمملكة المتحدة”. من الجدير بالذكر أن روسيا الآن ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، فهل ستظل المملكة المتحدة تقف ضد تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في أوكرانيا أيضًا !؟ نحن نعرف الجواب.
تلا إعلان روسيا الحرب تسخير كافة الإمكانيات والآليات المتاحة لتسهيل المساءلة الدولية على الاحتلال الروسي لأوكرانيا، بما في ذلك محكمة العدل الدولية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
فقد أصدرت محكمة العدل الدولية في هذا الصدد تدبيرًا مؤقتًا بتاريخ 18 آذار/مارس 2022، نتيجة لطلب قُدم من طرف أوكرانيا بتاريخ 7 آذار/مارس 2022، دعت فيه الاتحاد الروسي لوقف الحرب ووقف الأنشطة العسكرية في أوكرانيا. في هذا السياق،. طالبت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بموجب تدابير مؤقتة امتناع روسيا عن “الهجمات العسكرية ضد المدنيين واستهداف المنشآت المدنية”، وكذلك عدم القيام بانتهاكات أخرى للقانون الدولي الإنساني.
دفعت هذه الحماسة العالية المبررة تمامًا ومطلوبة في الحالة الأوكرانية، ولكن من دون انتقائية في ما سواها، جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، الى الإشارة إلى المعايير المزدوجة في الطريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع كل من أوكرانيا وفلسطين
الاستثنائية الفلسطينية مقابل الاستثنائية الأوكرانية!
من المحزن جداً أن الإيجابية والحماس لإطلاق يد العدالة في الحالة الأوكرانية كانا مجرّد حالة استثنائية، المؤسف كذلك أن فلسطين ليست مستبعدة من هذا الاستثناء فحسب، بل هي في الواقع استثناء بحد ذاته، في معناه المتعلق بالتهميش الشديد للقانون الدولي وإسكات الأصوات المناصرة لحقوق الفلسطينيين، بحيث يعد دعم الحقوق الفلسطينية سببًا كافيًا للاتهام بمعاداة السامية وفقًا لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، كما أن معاداة الفلسطينيين آخذة في الازدياد؛ بشكل رئيسي في إسرائيل والغرب.
المؤسف كذلك أن فلسطين ليست مستبعدة من هذا الاستثناء فحسب، بل هي في الواقع استثناء بحد ذاته، في معناه المتعلق بالتهميش الشديد للقانون الدولي وإسكات الأصوات المناصرة لحقوق الفلسطينيين
لعل تهميش القانون الدولي في الحالة الفلسطينية بدأ منذ أول مرة مع وضع فلسطين تحت نظام الانتداب. وكما فصّل أرضي أمسيس، فالنظام الإلزامي أوجد نمطًا يتم فيه تهميش القانون الدولي من خلال ثنائية “المهيمن/التابع” المتأصلة في حكم القانون، الذي كان بدوره أداة لتدويل الوضع القانوني التابع للمستعمرات على المستوى العالمي، وبالتالي إنتاج ما أسماه بالتبعية القانونية الدولية.
دعمت المحامية الفلسطينية الأمريكية نورا عريقات هذا الرأي في كتابها “العدالة للبعض” معتبرة أن “الاستثناء السيادي” باختيار فلسطين كموقع للاستيطان اليهودي أفرز ترتيبًا قانونيًا متخصصًا برر المحو القانوني للمجتمع السياسي الفلسطيني. هذا النظام، إلى جانب ثلاثة عقود من الرعاية الإمبريالية البريطانية، مكّن إسرائيل من تأكيد سيادتها الاستيطانية اليهودية الصهيونية بالقوة على أكثر من 78% من فلسطين الانتدابية في عام 1948، والتي تشمل مرتفعات الجولان السورية، مما أدى إلى تهميش تطبيق القانون في الحالة الفلسطينية، واختراع قانون آخر يلبي احتياجات إسرائيل.
وفي يومنا هذا، وبعد كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين يسفر عن عشرات -وأحيانا مئات أو آلاف- القتلى والجرحى من المدنيين، تتجنب الدول الغربية اصدار قرار رسمي واحد يدين إسرائيل، بل وتتذرع بحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها، مما يذكرنا بتصريح جون كيربي، المتحدث بإسم مجلس الأمن القومي الأميركي، عندما دافع عن إسرائيل مستشهدا بـ “حقها” في الدفاع عن النفس، بالاضافة الى تصريح وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس، بعد ساعات من شن عملية “بزوغ الفجر” بأن بلادها “تقف إلى جانب إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها” متناسية أن إسرائيل تدّعي الدفاع عن النفس ضد شعب تقوم باحتلاله حسب القانون الدولي.
ونستذكر أيضا الضغط المستمر لتجنب وصف النظام الاسرائيلي بالفصل عنصري “أبارثايد”. فرغم أن هذا النظام تأسس مع تأسيس إسرائيل، وتعزز عبر العقود منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة عام ١٩٦٧، إلا أن هذا الخطاب لم يلقى رواجاً بين المنظمات الحقوقية المعتبرة إلا حديثاً. في الحقيقة، عندما حاولت الإسكوا اصدار تقرير قانوني يستخدم مصطلح الأبارثايد، تم الضغط على ريما خلف، السكرتيرة التنفيذية لمنظمة الإسكوا -غرب آسيا، لسحب التقرير مما أدى الى استقالتها وسحب التقرير بعدها. مؤخراً، صرّح مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأن وصف الأبارثايد “غير ملائم” لوصف إسرائيل، استنادا لتعريف IHRA، الذي يقرن بين انتقاد دولة إسرائيل ومعاداة السامية، تحديداً وصف إسرائيل بالعنصرية، وهو تعريف يشوبه العديد من الانتقادات من المختصين في الهولوكوست والدراسات اليهودية. ويضاف إلى ذلك سلسلة القرارات التي تم تعطيل مرورها أو تنفيذها من قبل مجلس الأمن، والبطئ غير المبرر لسير عمل محكمة الجنايات الدولية في القضية الفلسطينية.
على من يقع اللوم؟ القانون الدولي، أم الدول، أم لا لومَ على الإطلاق؟
روي عن الفقيه القانوني المصري البارز، عبد الرزاق السنهوري قوله بأنه: “لا يسيطر القانون إلا بين قويين أو بين ضعيفين، فإن تفاوتت القوة، فالقوة هي القانون.” ولا يخفى على أحد أن هذا المنظور يسود في الأوساط القانونية والسياسية الموالية للفلسطينيين. يعتقد الكثيرون أن القانون لا يمكن أن يخدم العدالة في ظل الغياب الحالي لتوازن القوى، كما يعتقد الكثيرون أن أسس النظام الحالي للقانون الدولي (المعاهدات والمؤسسات على حد سواء) هي دليل على تلك المقولة، بما في ذلك حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وحقيقة أن معظم المعاهدات تمت صياغتها وتوقيعها بشكل أساسي من قبل الدول الغربية: التي كانت تستعمر بقية دول العالم آنذاك.
من ناحية أخرى، تستثمر إسرائيل بكثافة، وبمساعدة حلفائها، في قدراتها القانونية. على سبيل المثال، فإن نظرة على طلبات اسرائيل وحلفائها إلى المحكمة الجنائية الدولية أو أي هيئة منشأة بموجب المعاهدات الدولية، وتقاريرهم القانونية بعد العدوان غزة، تعطينا لمحة عن مدى استثمارهم في “صنعة القانون”، في محاولة لإخفاء جرائمها ضمن اطار قانوني، وعلى الرغم أن القضاة والسلطات القانونية لن يقبلوا بحججهم، لا أحد يستطيع أن ينكر الحجج الصلبة التي تمت صياغتها.
لم تتابع فلسطين وحلفاؤها جميع الخيارات القانونية بشكل كامل ومنهجي، فعلي الرغم من الحديث المستمر عن الفصل العنصري من قبل الحقوقيين المؤيدين للفلسطينيين، إلا أن التأطير القانوني للمصطلح، قد تم نتيجة لإصدار بتسيلم وهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية لتقاريرهم، وينطبق الأمر ذاته على كل جانب من جوانب القضية تقريبًا. وتعود أحد أسباب ذلك الى النظرة السلبية والسلوك الخامل تجاه القانون الدولي. لقد حان الأوان لفعل ما في أيدينا وترك إصلاح النظام القانوني الدولي لوقت لا يكون فيه ذلك مجرد رياضة ذهنية.
تتعدد الحوادث التي أعلت فيها منظومة القانون الدولي حقوق الفلسطينيين. فعلى الرغم من أن فلسطين كانت تحت الاحتلال العسكري، تمكنت فلسطين من الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأصبحت طرفًا في نظام روما الأساسي الخاص بها. مثال آخر يتمثل في الرأي الاستشاري الحالي لمحكمة العدل الدولية وقضية محكمة العدل الدولية السابقة لعام 2018 ضد الولايات المتحدة حول سفارتها إلى القدس؛ التي تم تعليقها مؤقتًا من قبل فلسطين والتي يمكن أن تؤدي إلى قرار ملزم ضد الولايات المتحدة إذا تم تفعيلها.
علاوة على ذلك ، على الرغم من عدم الاعتراف بها رسميًا كدولة من قبل الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية (من خلال الأمم المتحدة) من الحصول على قرار من محكمة العدل الدولية في عام 1988 يطالب الولايات المتحدة بالسماح لبعثة منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة في نيويورك بالعمل على الرغم من قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي. وقضت محكمة العدل الأوروبية في العام 2019، بوسم المنتجات المصنعة في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من كون ذلك “أضعف الإيمان” وأقل من أن يطلق عليه مسمى “العقوبات”، فإنها خطوة إيجابية يمكن البناء عليها. وتشمل الأمثلة الأخرى قرار محكمة روما برفض الاعتراف بالقدس كعاصمة لاسرائيل، والفشل القضائي في قمع حركة المقاطعة، والقائمة تطول. نحن ندرك أن الأصل أن لا تخاض تلك المعارك: فلماذا يتوجب على الفلسطينيين تبرير سعيهم إلى حقوقهم المنصوص عليها قانونًا؟ ومع ذلك، بالنظر إلى المنظومة الدولية غير المتوازنة التي نعيش فيها، تمثل هذه الامثلة انتصارات للقضية الفلسطينية.
تعتبر حركة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، المستندة إلى القانون الدولي، دليلًا واضحًا على أن القانون يمكن أن يدفع باتجاه تحقيق العدالة، أو للدقة: جزء منها. قارن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ذات مرة حركة المقاطعة بإيران، موضحا ان كلاهما تمثلان “تهديداً استراتيجي”، كما أدرج مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي المهم للغاية، المعروف باسم مؤتمر هرتسليا، قائمة المقاطعة على رأس التهديدات الاستراتيجية بجانب الأنشطة النووية الإيرانية في 2015.
بعد الانتصار القانوني الذي رافقه نضال سياسي وميداني، انتصرت ناميبيا على نظام الحكم الاستعماري، وتمامًا مثل ناميبيا، يمكن أن تكون فلسطين “استثناء” آخر
نؤمن أن القانون يمكن أن يحدث فارقًا كما فعل في ناميبيا، التي كانت تحت الاحتلال من قبل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، المدعوم من قبل العديد من الدول الغربية؛ بشكل رئيسي الولايات المتحدة، الذي في سياقه، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًا في عام 1970، والمعروف على نطاق واسع باسم “الاستثناء الناميبي”، واصفة الاحتلال بأنه غير قانوني وطالبت جنوب إفريقيا بالانسحاب من الأراضي الناميبية. وبعد الانتصار القانوني الذي رافقه نضال سياسي وميداني، انتصرت ناميبيا على نظام الحكم الاستعماري، وتمامًا مثل ناميبيا، يمكن أن تكون فلسطين “استثناءً” آخر.
تماما مثل فلسطين، فالقانون الدولي أيضاً ضحية للاستعمار. لكننا هنا لا نحاول إثبات ما إذا كانت المشكلة هي منظومة القانون الدولي أو الدول التي تستخدمه وتقوضه. نحن هنا نحاول أن نقول إن السلبية لن تحقق مسعانا. فهل النظام القانوني الدولي تشوبه العيوب؟ بالطبع. هل نحن أفضل حالا بدونه؟ بالطبع لا.
وهنا ندعو الضحايا ومحاميهم وممثليهم إلى القيام بتفعيل الآليات القانونية الدولية ومحاربة استخدام القانون الدولي لخدمة مصالح الدول.
في الختام، كما تم توضيحه أعلاه، كشفت التصويتات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة عن فداحة التناقض في مواقف الدول، لا سيما أن كلا التصويتين كانا متقاربين جدًا في الوقت. أعادنا هذا مرة أخرى إلى الاستنتاج ذاته المتعلق بالواقعية السياسية والتي تنص انه لن يتم إنفاذ القانون الدولي أو المطالبة به، إلا إذا كان يخدم مصالح القوى الكبرى التي لديها القدرة على التأثير في مسار تنفيذه.
ومع ذلك، فهذه ليست دعوة للسلبية، بل لزيادة الجهود القانونية لدعم القانون من أجل الضحايا الذين يحتاجون إلى الحماية ضد سلوك القوى الكبرى الذي تقوض القانون الدولي من خلال نهج اقرب لقانون الغاب. وكما هو موضح في حالة ناميبيا، فقد نجح القانون الدولي مرة، ويمكن أن ينجح مرة أخرى!
* لا تتحمل القانون من أجل فلسطين أية مسؤولية عن محتوى المقالات المنشورة في موقعها. تعبر المقالات عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن آراء المنظمة. تتعهد القانون من أجل فلسطين بإتاحة المجال، دائما، لكل الكتّاب ولتبادل وجهات النظر وإثراء النقاش من كافة الأطراف على قاعدة الاحترام المتبادل.